عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ اسْتَحْسَنَ اسْتِدْلَالَ الْكَعْبِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الْإِنْسَانِ لِمَذْهَبِهِ قَدْ يُلْقِيهِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابِ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ عَقِيبَ الْآيَةِ الَّتِي نَهَى اللَّه فِيهَا عَنْ نِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَعَنْ عَضْلِ النِّسَاءِ وَأَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَيْنَاكُمْ عَنْهَا كَفَّرْنَا عَنْكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ فِي ارْتِكَابِهَا سَالِفًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَجْهُ مُحْتَمَلًا، لَمْ يَتَعَيَّنْ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ عَامٌّ، فَقَصْرُهُ عَلَى الْمَذْكُورِ الْمُتَقَدِّمِ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ بِاجْتِنَابِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ يُكَفِّرُ اللَّه مَا حَصَلَ مِنْهَا فِي الْمَاضِي كَلَامٌ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَابُوا مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَالتَّوْبَةُ قَدْ أَزَالَتْ عِقَابَ ذَلِكَ لِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ، أَوْ لَا يَكُونُوا قَدْ تَابُوا مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَمِنْ أَيْنَ أَنَّ اجْتِنَابَ هَذِهِ الْكَبَائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ؟ هَذَا لَفْظُ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا لَا نَدَّعِي الْقَطْعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَكَ:
من أين أن اجتناب هذا الْكَبَائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ؟ سُؤَالٌ لَا اسْتِدْلَالَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقِسْمِ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَبْطُلُ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَإِذَا حَضَرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بَطَلَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: هُوَ أَنَّا إِذَا أَعْطَيْنَاهُمْ جَمِيعَ مُرَادَاتِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ زِيَادَةٌ عَلَى أَنْ نَقُولَ: إِنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبِ الْكَبَائِرَ لَمْ تُكَفَّرْ سَيِّئَاتُهُ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الْوَعِيدِ، وَعُمُومَاتُ الْوَعِيدِ لَيْسَتْ قَلِيلَةً، فَمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابًا عَنْ سَائِرِ الْعُمُومَاتِ كَانَ جَوَابًا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ خَاصِّيَّةٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِ الْكَعْبِيِّ: إِنَّ اللَّه قَدْ كَشَفَ الشُّبْهَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا يَكُونُ كَبِيرًا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ، وَيَكُونُ/ صَغِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الصَّغَائِرِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ كَبِيرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْكُفْرُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الْكُفْرَ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا الْكُفْرُ باللَّه وَبِأَنْبِيَائِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَشَرَائِعِهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنِ اجْتَنَبَ عَنِ الْكُفْرِ كَانَ مَا وَرَاءَهُ مَغْفُورًا، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ مُنْطَبِقٌ مُوَافِقٌ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا، بَلْ ظَاهِرًا سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وباللَّه التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ يَجِبُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، بَلْ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ (يُكَفَّرْ وَيُدْخِلْكُمْ) بِالْيَاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْوَعْدِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ مَدْخَلًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفِي الْحَجِّ مِثْلُهُ، وَالْبَاقُونَ بالضم، ولم