فَقَوْلُهُ وَعَشِيًّا الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَحْضِ اللَّيْلِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقَوْلُهُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الْمُرَادُ الصَّلَاةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَحْضِ النَّهَارِ، وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ كَمَا قَدَّمَ فِي قَوْلِهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: ١٧] صَلَاةَ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ فِي الذِّكْرِ، فَكَذَلِكَ قَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ صَلَاةَ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ فِي الذِّكْرِ، فَصَارَتِ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعَةُ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ أَفْرَدَهَا اللَّه تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي قوله وَالْعَصْرِ تَشْرِيفًا لَهَا بِالْإِفْرَادِ بِالذِّكْرِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ
[هُودٍ: ١١٤] فَقَوْلُهُ طَرَفَيِ النَّهارِ يُفِيدُ وُجُوبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَوُجُوبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّهُمَا كَالْوَاقِعَتَيْنِ عَلَى الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَاقِعَةً قَبْلَ حُدُوثِ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَاقِعَةً قَبْلَ حُدُوثِ الطَّرَفِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يُفِيدُ وُجُوبَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَتْرِ قَالَ: لِأَنَّ الزُّلَفَ جَمْعٌ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجِبَ ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ فِي اللَّيْلِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ فَقَوْلُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: ١٣٠] إِشَارَةٌ إِلَى الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: ١١٤] وَقَوْلُهُ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَكَمَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَكَذَلِكَ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ آنَاءِ اللَّيْلِ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، فَهَذَا مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الصَّلَوَاتِ بِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْقُولِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ مَرَاتِبَ خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: مَرْتَبَةُ الْحُدُوثِ وَالدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ كَمَا يُولَدُ الْإِنْسَانُ وَيَبْقَى في النشو وَالنَّمَاءِ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سن/ النشو وَالنَّمَاءِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مُدَّةُ الْوُقُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الشَّيْءُ عَلَى صِفَةِ كَمَالِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سِنَّ الشَّبَابِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مُدَّةُ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْإِنْسَانِ نُقْصَانٌ خَفِيٌّ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سِنَّ الْكُهُولَةِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مُدَّةُ الشَّيْخُوخَةِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْإِنْسَانِ نُقْصَانَاتٌ ظاهرة جليلة إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَيَهْلِكَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمُدَّةُ سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ.
الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تَبْقَى آثَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً، ثُمَّ بِالْآخِرَةِ تَنْمَحِي تِلْكَ الْآثَارُ وَتَبْطُلُ وَتَزُولُ، وَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْخَمْسَةُ حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ سَوَاءٌ كَانَ إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَوِ النَّبَاتَاتِ، وَالشَّمْسُ حَصَلَ لَهَا بِحَسَبِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْخَمْسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا حِينَ تَطْلُعُ مِنْ مشرقها يشبه حالها حال المولود عند ما يُولَدُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَزْدَادُ ارْتِفَاعُهَا وَيَقْوَى نُورُهَا وَيَشْتَدُّ حَرُّهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ، فَتَقِفَ هُنَاكَ سَاعَةً ثُمَّ تَنْحَدِرُ وَيَظْهَرُ فِيهَا نُقْصَانَاتٌ خَفِيَّةٌ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ يَظْهَرُ فِيهَا نُقْصَانَاتٌ ظَاهِرَةٌ فَيَضْعُفُ ضَوْؤُهَا وَيَضْعُفُ حَرُّهَا، وَيَزْدَادُ انْحِطَاطُهَا وَقُوَّتُهَا إِلَى الْغُرُوبِ، ثُمَّ إِذَا غَرَبَتْ يَبْقَى بَعْضُ آثَارِهَا فِي أُفُقِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ الشَّفَقُ، ثُمَّ تَنْمَحِي تِلْكَ الْآثَارُ وَتَصِيرُ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْعَالَمِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْخَمْسَةُ لَهَا وَهِيَ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى لَا جرم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute