ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَوَاظِبُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّه فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحِذْرِ مَعَ الْعَدُوِّ جَدِيرٌ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّه وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ، يَعْنِي صَلُّوا قِيَامًا حَالَ اشْتِغَالِكُمْ بِالْمُسَابَقَةِ وَالْمُقَارَعَةِ، وَقُعُودًا حَالَ اشْتِغَالِكُمْ بِالرَّمْيِ، وَعَلَى جُنُوبِكُمْ حَالَ مَا تَكْثُرُ الْجِرَاحَاتُ فِيكُمْ فَتَسْقُطُونَ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ حِينَ تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَاقْضُوا مَا صَلَّيْتُمْ فِي حَالِ الْمُسَابَقَةِ.
هَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي حَالِ الْمُسَابَقَةِ إِذَا حَضَرَ وَقْتُهَا، وَإِذَا اطْمَأَنُّوا فَعَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالًا، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَصَلُّوا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الذِّكْرِ عَلَى الصَّلَاةِ مَجَازٌ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسْبُوقَةٌ بِحُكْمَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: بَيَانُ الْقَصْرِ وَهُوَ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَالثَّانِي: صَلَاةُ الْخَوْفِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يَحْتَمِلُ نَقِيضَ الْأَمْرَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُسَافِرًا بَلْ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ: فَإِذَا صِرْتُمْ مُقِيمِينَ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ تَامَّةً مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ الْبَتَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ، بَلْ يَصِيرُ سَاكِنَ الْقَلْبِ سَاكِنَ النَّفْسِ بِسَبَبِ أَنَّهُ زَالَ الْخَوْفُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ:
فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ عَنْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْرِفُونَهَا، وَلَا تُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهَا وَهَيْآتِهَا، ثُمَّ لَمَّا بَالَغَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْحِ أَقْسَامِ الصَّلَاةِ فَذَكَرَ صَلَاةَ السَّفَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ صَلَاةَ الْخَوْفِ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي فرضا موقتا، والمراد بالكتاب هاهنا الْمَكْتُوبُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَكْتُوبَةٌ مَوْقُوتَةٌ، ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ مِنَ الْمَوْقُوتِ كَمَا جَعَلَ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرُ مُذَكَّرٌ، وَمَعْنَى الْمَوْقُوتِ أَنَّهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتٍ مُوَقَّتَةٍ، يُقَالُ: وَقَّتَهُ وَوَقَتَهُ مخففا، وقريء وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِتَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: ١١] بِالتَّخْفِيفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ مُقَدَّرٌ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أجمل ذكر الأوقات هاهنا وَبَيَّنَهَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: ٢٣٨] فَقَوْلُهُ الصَّلَواتِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صَلَوَاتٍ ثَلَاثَةٍ، وَقَوْلُهُ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى الثَّلَاثَةِ/ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةً، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا وُسْطَى، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهَا خَمْسَةً لِتَحْصُلَ الْوُسْطَى، وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوَتْرِ، وَإِلَّا لَصَارَتِ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَةُ سِتَّةً، فَحِينَئِذٍ لَا تَحْصُلُ الْوُسْطَى فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى بَيَانِ أَوْقَاتِهَا. وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٨] فَالْوَاجِبُ مِنَ الدُّلُوكِ إِلَى الْغَسَقِ هُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالْوَاجِبُ مِنَ الْغَسَقِ إِلَى الْفَجْرِ هُوَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْوَاجِبُ فِي الْفَجْرِ هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوهِمُ أَنَّ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا وَاحِدًا وَلِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتًا وَاحِدًا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: ١٧] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاتَانِ الْوَاقِعَتَانِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَهُمَا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الرُّومِ: ١٨]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute