للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبَقِيَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى كَبِرَ وَعَقَلَ وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، فَسَأَلَ الْأُمَّ فَقَالَ لَهَا: مَنْ رَبِّي؟ فَقَالَتْ أَنَا، فَقَالَ: وَمَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ أَبُوكَ، فَقَالَ لِلْأَبِ: وَمَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: مَلِكُ الْبَلَدِ. فَعَرَفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلَهُمَا بِرَبِّهِمَا فَنَظَرَ مِنْ بَابِ ذَلِكَ الْغَارِ لِيَرَى شَيْئًا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَرَأَى النَّجْمَ الَّذِي هُوَ أَضْوَأُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ.

فَقَالَ: هَذَا رَبِّي إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَجَرَيَانِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَاتَّفَقَ أَكْثَرُ المحققين على فساد القول الأول [أي إن النجم رب في قول إبراهيم ع هذا رَبِّي] وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ:

الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْلَ بِرُبُوبِيَّةِ النَّجْمِ كُفْرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكُفْرُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ عَرَفَ رَبَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِالدَّلِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: ٧٤] .

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بالرفق حيث قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً

[مَرْيَمَ: ٤٢] وَحَكَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالْكَلَامِ الْخَشِنِ وَاللَّفْظِ الْمُوحِشِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ دَعَا غَيْرَهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الرِّفْقَ عَلَى الْعُنْفِ وَاللِّينَ عَلَى الْغِلَظِ وَلَا يَخُوضُ فِي التَّعْنِيفِ وَالتَّغْلِيظِ إِلَّا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ وَالْيَأْسِ التَّامِّ.

فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ/ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَغَلَ بِدَعْوَةِ أَبِيهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مُهِمِّ نَفْسِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ اللَّه بِمُدَّةٍ.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أن أراه اللَّه ملكوت السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى رَأَى مَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَمَا تَحْتَهُمَا إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى، وَمَنْ كَانَ مَنْصِبُهُ فِي الدِّينِ كَذَلِكَ، وَعِلْمُهُ باللَّه كَذَلِكَ، كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ؟

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ فِي الْأَفْلَاكِ ظَاهِرَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ وَمَعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِأَقَلِّ الْعُقَلَاءِ نَصِيبًا مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ أَنْ يَقُولَ بِرُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ فَضْلًا عَنْ أَعْقَلِ الْعُقَلَاءِ وَأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ؟

الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصَّافَّاتِ: ٨٤] وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْقَلْبِ السَّلِيمِ أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنِ الْكُفْرِ، وَأَيْضًا مَدَحَهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥١] أَيْ آتَيْنَاهُ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْفِكْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَيْ بِطَهَارَتِهِ وَكَمَالِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤] .

الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَيْ وَلِيَكُونَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

وَالْفَاءُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ صَارَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُوقِنِينَ العارفين بربه.

<<  <  ج: ص:  >  >>