للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الْيَقِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ بِالتَّأَمُّلِ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالشَّكِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ كَالْغَرَضِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْإِرَاءَةُ عِبَارَةً عَنِ الِاسْتِدْلَالِ.

الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِ اللَّه تَعَالَى دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُمْكِنَةٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّانِعِ. وَإِذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ فَقَدْ كَفَاهُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ وَكَأَنَّهُ بِمَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ قَدْ طَالَعَ جَمِيعَ الْمَلَكُوتِ بِعَيْنِ عَقْلِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِ عَقْلِهِ شَهَادَتَهَا بِالِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ زَائِلَةٍ الْبَتَّةَ. ثم إنها غير شاغلة عَنِ اللَّه تَعَالَى بَلْ هِيَ شَاغِلَةٌ لِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ باللَّه. أَمَّا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ فَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَى بِالْعَيْنِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى صَحِيفَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرَى مِنْ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ رُؤْيَةً كَامِلَةً تَامَّةً إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا فَإِنْ حَدَّقَ نَظَرَهُ إِلَى حَرْفٍ آخَرَ وَشَغَلَ بَصَرَهُ بِهِ صَارَ مَحْرُومًا عَنْ إِدْرَاكِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ، أَوْ عَنْ إِبْصَارِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ/ الْكَثِيرَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مُمْكِنَةٍ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً هِيَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً هِيَ شَاغِلَةٌ عَنِ اللَّه تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَرْكِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: ١٧] فَثَبَتَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ إِرَاءَةً بِحَسَبِ بَصِيرَةِ الْعَقْلِ، لَا بِحَسَبِ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَرُؤْيَةُ الْقَلْبِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ تَحْصُلُ لِإِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِهَا.

قُلْنَا: جَمِيعُ الْمُوَحِّدِينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى آثَارِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ بِحَسَبِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا وَأَشْخَاصِهَا وَأَحْوَالِهَا مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْأَكَابِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى

كَانَ رَسُولُنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ»

فَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ. واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي «الْوَاوِ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: نُرِي إِبْرَاهِيمَ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا لِبَيَانِ عِلَّةِ الْإِرَاءَةِ وَالتَّقْدِيرُ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ نُرِيهِ مَلَكُوتَ السموات وَالْأَرْضِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِرَاءَةَ قَدْ تَحْصُلُ وَتَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الضَّلَالِ كَمَا فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: ٥٦] وَقَدْ تَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْهِدَايَةِ وَالْيَقِينِ. فَلَمَّا احْتَمَلَتِ الْإِرَاءَةُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا أَرَيْنَاهُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِيَرَاهَا وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ من الموقنين لا من الجاهدين واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْيَقِينُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ يَحْصُلُ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ التَّأَمُّلِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوصَفُ عِلْمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِ يَقِينًا لِأَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِالشُّبْهَةِ وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ مَا يَسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ قَلْبُهُ عَنْ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِذَا كَثُرَتِ الدَّلَائِلُ وَتَوَافَقَتْ وَتَطَابَقَتْ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الْيَقِينِ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ نَوْعُ تَأَثُّرٍ وَقُوَّةٍ فَلَا تَزَالُ الْقُوَّةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>