لَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَارِقَهَا، وَأَمَّا خَلْقُ كَيْفِيَّةٍ تَسْتَبْرِدُ النَّارَ فَلِأَنَّ الْمِزَاجَ الْإِنْسَانِيَّ لَهُ طَرَفَا تَفْرِيطٍ وَإِفْرَاطٍ، فَلَوْ خَرَجَ عَنْهُمَا لَا يَبْقَى إِنْسَانًا أَوْ لَا يَعِيشُ. مَثَلًا الْمِزَاجُ إِنْ كَانَ الْبَارِدُ فِيهِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ يَكُونُ إِنْسَانًا فَإِنْ صَارَ أَحَدَ عَشَرَ لَا يَكُونُ إِنْسَانًا وَإِنْ صَارَتِ الْأَجْزَاءُ الْبَارِدَةُ خَمْسَةً يَبْقَى إِنْسَانًا فَإِذَا صَارَتْ أَرْبَعَةً لَا يَبْقَى إِنْسَانًا لَكِنَّ الْبُرُودَةَ الَّتِي يَسْتَبْرِدُ مَعَهَا النَّارَ مِزَاجُ السَّمَنْدَلِ فَلَوْ حَصَلَ فِي الْإِنْسَانِ لَمَاتَ أَوْ لَكَانَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّفْسَ تَابِعَةٌ لِلْمِزَاجِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْقُطْنَةُ فِي النَّارِ وَالنَّارُ كَمَا هِيَ، وَالْقُطْنَةُ كَمَا هِيَ وَلَا تَحْتَرِقُ، فَنَقُولُ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَالْعَقْلُ مُوَافِقٌ لِلنَّقْلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَرَارَةَ فِي النَّارِ تَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ، فَإِنَّ النَّارَ فِي الْفَحْمِ إِذَا نُفِخَ فِيهِ يَشْتَدُّ حَتَّى يُذِيبَ الْحَدِيدَ وَإِنْ لَمْ يُنْفَخْ لَا يَشْتَدُّ لَكِنَّ الضعف هو عدم بعض من الجرارة الَّتِي كَانَتْ فِي النَّارِ، فَإِذَا أَمْكَنَ عُدْمُ الْبَعْضِ جَازَ عُدْمُ بَعْضٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ لَا يُؤْذِي الْإِنْسَانَ، وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةٌ فَإِنَّهَا لَا تَشْتَدُّ وَلَا تَضْعُفُ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ فِي أُصُولِ الطِّبِّ ذُكِرَ أَنَّ النَّارَ لَهَا كَيْفِيَّةٌ حَارَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ بَارِدَةٌ لَكِنْ رَأَيْنَا أَنَّ الْمَاءَ تَزُولُ عَنْهُ الْبُرُودَةُ وَهُوَ مَاءٌ فَكَذَلِكَ النَّارُ تَزُولُ عَنْهَا الْحَرَارَةُ وَتَبْقَى نَارًا وَهُوَ نُورٌ غَيْرُ مُحْرِقٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَأَيْضًا مُمْكِنٌ وَقَوْلُهُمْ مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَنْعُ أَصْلِهِمْ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ تَابِعَةً لِلْمِزَاجِ بَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي الْمِزَاجِ الَّذِي مِثْلَ مِزَاجِ الْجَمَدِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ نَقُولَ عَلَى أَصْلِكُمْ لَا يَلْزَمُ الْمُحَالُ لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَكُونُ في ظاهر الجلد كَالْأَجْزَاءِ الرَّشِّيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَدَّى إِلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ/ إِذَا مَسَّ الْجَمَدَ زَمَانًا ثُمَّ مَسَّ جَمْرَةَ نَارٍ لَا تُؤَثِّرُ النَّارُ فِي إِحْرَاقِ يَدِهِ مِثْلَ مَا تُؤَثِّرُ فِي إِحْرَاقِ يَدِ مَنْ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، وَلِهَذَا تَحْتَرِقُ يَدُهُ قَبْلَ يَدِ هَذَا. فَإِذَا جَازَ وُجُودُ كَيْفِيَّةٍ فِي ظَاهِرِ جِلْدِ الْإِنْسَانِ تَمْنَعُ تَأْثِيرَ النَّارِ فِيهِ بِالْإِحْرَاقِ زَمَانًا فَيَجُوزُ أَنْ تَتَجَدَّدَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ لَحْظَةً فَلَحْظَةً حَتَّى لَا تَحْتَرِقَ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمُجَرَّدُ اسْتِبْعَادِ بَيَانِ عَدَمِ الِاعْتِيَادِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ وَالْمُعْجِزُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَعْنِي فِي إِنْجَائِهِ مِنَ النَّارِ لَآيَاتٍ، وَهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي إِنْجَاءِ نُوحٍ وأصحاب السفينة جَعَلْناها آيَةً [العنكبوت: ١٥] وقال هاهنا لَآياتٍ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ بِالسَّفِينَةِ شَيْءٌ تَتَّسِعُ لَهُ الْعُقُولُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِسَبَبِ إِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالِاتِّخَاذِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا اتَّخَذَهُ لِعَدَمِ حُصُولِ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْغَيْبِ، وَبِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ صَانَ السَّفِينَةَ عَنِ الْمُهْلِكَاتِ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ، وَأَمَّا الْإِنْجَاءُ مِنَ النَّارِ فَعَجِيبٌ فَقَالَ فِيهِ آيَاتٌ.
المسألة الثانية: قال هناك آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: ١٥] وقال هاهنا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خَصَّ الْآيَاتِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ السَّفِينَةَ بَقِيَتْ أَعْوَامًا حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا النَّاسُ وَرَأَوْهَا فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَمَّا تَبْرِيدُ النَّارِ [فَإِنَّهُ] لَمْ يَبْقَ فَلَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ يعده إِلَّا بِطَرِيقِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَرَّدَ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ اهْتِدَائِهِ فِي نَفْسِهِ وَهِدَايَتِهِ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي إِبْرَاهِيمَ، فَحَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّدُ عَلَيْهِمُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ إِنَّ فِي ذَلِكَ التَّبْرِيدِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون.
المسألة الثالثة: قال هناك جَعَلْناها وقال هاهنا جَعَلْنَاهُ لِأَنَّ السَّفِينَةَ مَا صَارَتْ آيَةً فِي نَفْسِهَا وَلَوْلَا خَلْقُ اللَّهِ الطُّوفَانَ لَبَقِيَ فِعْلُ نُوحٍ سَفَهًا، فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ السَّفِينَةَ بَعْدَ وُجُودِهَا آيَةً، وَأَمَّا تَبْرِيدُ النَّارِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ إِذَا وُجِدَتْ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ كَخَلْقِ الطُّوفَانِ حَتَّى يَصِيرَ آيَةً. ثم قال تعالى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute