الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ وجهين أحدهما: قوله: قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: ٢٢٢] وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى التَّجْوِيزِ لَكَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَبَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الرِّوَايَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِتْيَانُهَا مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْآيَةِ فَوَجَبَ كَوْنُ الْآيَةِ مُتَنَاوِلَةً لِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَتَى حَمَلْنَاهَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى حَمْلِهَا عَلَى الصُّورَةِ الْأُخْرَى فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ، وَعِنْدَ هَذَا نَبْحَثُ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ مَعْنَاهُ: فَأْتُوا مَوْضِعَ الْحَرْثِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَرْثِ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ أَنَّى شِئْتُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي مَكَانٍ، وَعِنْدَ هَذَا يُضْمِرُ فِيهِ زِيَادَةً، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَنَّى شِئْتُمْ فَيُضْمِرُ لَفْظَةَ: مَنْ، لَا يُقَالُ لَيْسَ حَمْلُ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْتِزَامُ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ لَفْظِ الْحَرْثِ عَلَى الْمَرْأَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، حَتَّى لَا يُلْزِمَنَا هَذَا الْإِضْمَارُ لِأَنْ نَقُولَ: بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦] عَامٌّ، وَدَلَائِلُنَا خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَجَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إِنَّمَا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مَحِلٌّ لِحِلِّ الْمُلَابَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: يَدُكِ طَالِقٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَنَّى شِئْتُمْ وَالْمَشْهُورُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ قُبُلِهَا فِي قُبُلِهَا، وَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَيَّ وَقْتٍ شِئْتُمْ مِنْ أَوْقَاتِ الْحِلَّ: يَعْنِي إِذَا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيَّةً، أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ صَائِمَةً، أَوْ حَائِضًا وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَهَا قَائِمَةً أَوْ بَارِكَةً، أَوْ مُضْطَجِعَةً، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْجِ الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى إن شاء، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَعْزِلْ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الْخَامِسُ: مَتَى شِئْتُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُخْتَارُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ؟.
قُلْنَا: قَدْ ظَهَرَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ أَتَى/ الْمَرْأَةَ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِتَكْذِيبِ قَوْلِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ «أَنَّى» يَكُونُ بِمَعْنَى مَتَّى وَيَكُونُ بِمَعْنَى كَيْفَ وَأَمَّا الْعَزْلُ وَخِلَافُهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ «أَنَّى» لِأَنَّ حَالَ الْجِمَاعِ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى مَا قُلْنَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَمَعْنَاهُ: افْعَلُوا مَا تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدِّمْ لِنَفْسِكَ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] وَنَظِيرُ لفظ