الْفُقَرَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُرَجِّحَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ، وَالتَّرْجِيحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، وَالْقُرَابَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلتَّرْجِيحِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرَابَةَ مَظِنَّةُ الْمُخَالَطَةِ، وَالْمُخَالَطَةُ سَبَبٌ لِاطِّلَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حَالِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَنِيًّا وَالْآخَرُ فَقِيرًا كَانَ اطِّلَاعُ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ أَتَمَّ، وَاطِّلَاعُ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ أَتَمَّ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْحَوَامِلِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرَاعِ جَانِبَ الْفَقِيرِ، احْتَاجَ الْفَقِيرُ لِلرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَارٌ وَسَيِّئَةٌ فِي حَقِّهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَكَفَّلَ بِمَصَالِحِهِمْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَرِيبَ الْإِنْسَانِ جَارٍ مَجْرَى الْجُزْءِ مِنْهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى النَّفْسِ أَوْلَى مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْغَيْرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْبَعِيدِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ الْأَقْرَبِينَ الْيَتَامَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لِصِغَرِهِمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَلِكَوْنِهِمْ يَتَامَى لَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ يَكْتَسِبُ لَهُمْ، فَالطِّفْلُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ قَدْ عَدِمَ الكسب والكاسب وأشرب عَلَى الضَّيَاعِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُمُ الْمَسَاكِينَ وَحَاجَةُ هَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنْ حَاجَةِ الْيَتَامَى لِأَنَّ قُدْرَتَهُمْ عَلَى التَّحْصِيلِ أَكْثَرُ مِنْ قُدْرَةِ الْيَتَامَى ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُمُ ابْنَ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ انْقِطَاعِهِ عَنْ بَلَدِهِ، قَدْ يَقَعُ فِي الِاحْتِيَاجِ وَالْفَقْرِ، فَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ الَّذِي رَتَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ، ثُمَّ لَمَّا فَصَّلَ هَذَا التَّفْصِيلَ الْحَسَنَ الْكَامِلَ أَرْدَفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أَيْ وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمُوهُ مِنْ خَيْرٍ إِمَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَإِمَّا مَعَ غَيْرِهِمْ حِسْبَةً لِلَّهِ وَطَلَبًا لِجَزِيلِ ثَوَابِهِ وَهَرَبًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، وَالْعَلِيمُ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ عَالِمًا يَعْنِي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي/ السَّمَاءِ فَيُجَازِيكُمْ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٥] وَقَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ هُوَ الْمَالُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [الْعَادِيَاتِ: ٨] وَقَالَ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٠] فَالْمَعْنَى وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْإِنْفَاقَ وَسَائِرَ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ، وَهَذَا أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ لَا يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إِلَيْهَا أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ عِنْدَ قُصُورِهِمَا عَنِ الْكَسْبِ وَالْمِلْكِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْرَبِينَ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَقَدْ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ عِنْدَ فَقْدِ الْمِلْكِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَلْزَمُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْمِيرَاثُ يَصِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَيْضًا فَمَا يَصِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفَقَةٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ أَحَبَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِ النَّفَقَةِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُنْفِقَهُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ فَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ التَّطَوُّعَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوُجُوبَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ حَيْثُ الْكِفَايَةُ وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مِمَّا يَكُونُ زَكَاةً وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَا يَكُونُ بَعْثًا عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا يَصْرِفُهُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مَا يَخْلُصُ لِلصَّدَقَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الوجوه من غير نسخ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute