سَنَةٍ،
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: الْفَضِيلَةُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَالْإِنْفَاقُ الْكَثِيرُ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالتَّقْلِيلُ جِدًّا هُوَ التَّقْتِيرُ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ الْعَفْوَ وَمَدَارُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ فَشَرْعُ الْيَهُودِ مَبْنَاهُ عَلَى الْخُشُونَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ النَّصَارَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَسِّطٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْمَلَ مِنَ الْكُلِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (الْعَفْوُ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، فَمَنْ رَفَعَ جَعَلَ (ذَا) بِمَعْنَى (الَّذِي) وَيُنْفِقُونَ صِلَتَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْعَفْوُ وَمَنْ نَصَبَ كَانَ التَّقْدِيرُ: مَا يُنْفِقُونَ وَجَوَابُهُ: يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ أَوِ التَّطَوُّعُ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ هُوَ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ، فَلَهُمْ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ العفو هو الزكاة فجاء ذكرها هاهنا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُهَا فَمَذْكُورَةٌ فِي السُّنَّةِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الصَّدَقَاتِ فَالنَّاسُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ مَكَاسِبِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ فِي عَامِهِمْ، ثُمَّ يُنْفِقُوا الْبَاقِي، ثُمَّ صَارَ هَذَا مَنْسُوخًا بِآيَةِ الزَّكَاةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْرُوضًا لَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِقْدَارَهُ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ بَلْ فَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِ الْمُخَاطَبِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ.
وَأُجِيبُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.
ما قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فَمَعْنَاهُ أَنِّي بَيَّنْتُ لَكُمُ الْأَمْرَ فِيمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِنْفَاقِ وَمَصَارِفِهِ فَهَكَذَا أُبَيِّنُ لَكُمْ فِي مُسْتَأْنَفِ أَيَّامِكُمْ جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وَالثَّانِي: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فَيُعَرِّفُكُمْ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِيهِمَا مَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا وَمَضَارٌّ فِي الْآخِرَةِ/ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا الثَّالِثُ: يُعَرِّفُكُمْ أَنَّ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْآخِرَةِ وَإِمْسَاكَهُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَتَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَفَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا لِدَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute