للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَلْطٌ لِلْيَتِيمِ نَفْسِهِ وَالشَّرِكَةُ خَلْطٌ لِمَالِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّرِكَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَالْخَلْطُ مِنْ جِهَةِ النِّكَاحِ، وَتَزْوِيجُ الْبَنَاتِ مِنْهُمْ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ، فَحَمْلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْخَلْطِ أَقْرَبُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِخْوانُكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْطِ هُوَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَلْطِ، لِأَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ لَوَجَبَ أَنْ يَتَحَرَّى صَلَاحَ أَمْوَالِهِ كَمَا يَتَحَرَّاهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢١] فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُخَالَطَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْيَتَامَى الَّذِينَ هُمْ لَكُمْ إِخْوَانٌ بِالْإِسْلَامِ فَهُمُ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُنَاكِحُوهُمْ لِتَأْكِيدِ الْأُلْفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ نَصَبْتَهُ كَانَ صَوَابًا، وَالْمَعْنَى فَإِخْوَانُكُمْ تُخَالِطُونَ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فَقِيلَ: الْمُفْسِدُ لِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْمُصْلِحِ لَهَا، وَقِيلَ: يَعْلَمُ ضَمَائِرَ مَنْ أَرَادَ الْإِفْسَادَ وَالطَّمَعَ فِي مَالِهِمْ بِالنِّكَاحِ مِنَ الْمُصْلِحِ، يَعْنِي: أَنَّكُمْ إِذَا أَظْهَرْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِرَادَةَ الْإِصْلَاحِ فَإِذَا لَمْ تُرِيدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ بَلْ كَانَ مُرَادُكُمْ مِنْهُ غَرَضًا آخَرَ فَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِكُمْ عَالِمٌ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ، وَالسَّبَبُ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يُمْكِنُهُ رِعَايَةَ الغبطة لنفسه، وليس له/ أَحَدٌ يُرَاعِيهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بِمَصَالِحِهِ فَأَنَا ذَلِكَ الْمُتَكَفِّلُ وَأَنَا الْمُطَالِبُ لِوَلِيِّهِ، وَقِيلَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصْلِحَ الَّذِي يَلِي مِنْ أَمْرِ الْيَتِيمِ مَا يَجُوزُ لَهُ بِسَبَبِهِ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ وَيَعْلَمُ الْمُفْسِدَ الَّذِي لَا يَلِي مِنْ إِصْلَاحِ أَمْرِ الْيَتِيمِ مَا يَجُوزُ لَهُ بِسَبَبِهِ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ، فَاتَّقُوا أَنْ تَتَنَاوَلُوا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ إِصْلَاحٍ مِنْكُمْ لِمَالِهِمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْإِعْنَاتُ» الْحَمْلُ عَلَى مَشَقَّةٍ لَا تُطَاقُ يُقَالُ: أَعْنَتَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَوْقَعَهُ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ وَتَعَنَّتَهُ تَعَنُّتًا إِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ فِي سُؤَالِهِ، وَعَنَتَ الْعَظْمُ الْمَجْبُورُ إِذَا انْكَسَرَ بَعْدَ الْجَبْرِ وَأَصْلُ الْعَنَتِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَأَكَمَةٌ عَنُوتٌ إِذَا كَانَتْ شَاقَّةً كَدُودًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] أَيْ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مَا شَقَّ عَلَيْكُمْ، وَيُقَالُ أَعْنَتَنِي فِي السُّؤَالِ أَيْ شَدَّدَ عَلَيَّ وَطَلَبَ عَنَتِي وَهُوَ الْإِضْرَارُ وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مُوبَقًا وَقَالَ عَطَاءٌ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَدْخَلَ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةَ كَمَا أَدْخَلْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَضَيَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْكُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْعَبْدَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلِ الْإِعْنَاتَ وَالضِّيقَ فِي التَّكْلِيفِ، وَلَوْ كَانَ مُكَلِّفًا بِمَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْإِعْنَاتِ وَحَدَّ الضِّيقِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، ثُمَّ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَيْضًا فَوَلِيُّ هَذَا الْيَتِيمِ قَدْ