إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْبِنَاءَ قَدْ يَجِيءُ لِلْمَوْضِعِ، كَالْمَبِيتِ، وَالْمَقِيلِ، وَالْمَغِيبِ، وَقَدْ يَجِيءُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، يُقَالُ: حَاضَتْ مَحِيضًا، وَجَاءَ مَجِيئًا، وَبَاتَ مَبِيتًا، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنْ ذَوَاتِ الثَّلَاثَةِ، نَحْوَ: كَالَ يَكِيلُ، وَحَاضَ يَحِيضُ، وَأَشْبَاهُهُ فَإِنَّ الِاسْمَ مِنْهُ مَكْسُورٌ، وَالْمَصْدَرَ مَفْتُوحٌ مِنْ ذَلِكَ مَالَ مُمَالًا، وَهَذَا مُمِيلُهُ يَذْهَبُ بِالْكَسْرِ إِلَى الِاسْمِ، وَبِالْفَتْحِ إِلَى الْمَصْدَرِ، وَلَوْ فَتَحَهُمَا جَمِيعًا أَوْ كَسَرَهُمَا فِي الْمَصْدَرِ وَالِاسْمِ لَجَازَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: الْمَعَاشُ وَالْمَعِيشُ، وَالْمَغَابُ وَالْمَغِيبُ، وَالْمَسَارُ وَالْمَسِيرُ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْمَحِيضِ حقيقة في موضوع الْحَيْضِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِنَفْسِ الْحَيْضِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض هاهنا الْحَيْضُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ لَوْ كان المراد بالمحيض هاهنا الْحَيْضَ لَكَانَ قَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ مَعْنَاهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْحَيْضِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَنْعُ غَيْرَ ثَابِتٍ لَزِمَ الْقَوْلُ بِتَطَرُّقِ النَّسْخِ أَوِ التَّخْصِيصِ إِلَى الْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْمَحِيضَ عَلَى مَوْضِعِ الْحَيْضِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي/ مَوْضِعِ الْحَيْضِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى:
فَاعْتَزِلُوا مَوْضِعَ الْحَيْضِ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْآيَةِ نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، وَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا يُوجِبُ مَحْذُورًا وَعَلَى الْآخَرِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْمَحْذُورَ، فَإِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَا يُوجِبُ الْمَحْذُورَ أَوْلَى، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْمَحِيضِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ الْمَصْدَرِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أن استعمال هذا اللفظ في موضع أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْمَصْدَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَحِيضِ الْحَيْضُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَذىً أَيِ الْمَحِيضُ أَذًى، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحِيضِ الْمَوْضِعَ لَمَا صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ.
قُلْنَا: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَحِيضُ عِبَارَةً عَنِ الْحَيْضِ، فَالْحَيْضُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِأَذًى لِأَنَّ الْحَيْضَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّمِ الْمَخْصُوصِ، وَالْأَذَى كَيْفِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهُوَ عَرَضٌ، وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ نَفْسَ الْعَرَضِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا:
الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحَيْضَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ أَذًى، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ لَنَا أَيْضًا أَنْ نَقُولَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ذُو أَذًى، وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحِيضِ الْأَوَّلِ هُوَ الْحَيْضَ، وَمِنَ الْمَحِيضِ الثَّانِي مَوْضِعَ الْحَيْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ أَذىً فَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ قَذَرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَذَى فِي اللُّغَةِ مَا يُكْرَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ الِاعْتِزَالُ التَّنَحِّي عَنِ الشَّيْءِ، قَدَّمَ ذِكْرَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْأَذَى، ثُمَّ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وُجُوبُ الِاعْتِزَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْأَذَى إِلَّا الدَّمَ وَهُوَ حَاصِلٌ وَقْتَ الِاسْتِحَاضَةِ مَعَ أَنَّ اعْتِزَالَ الْمَرْأَةِ فِي الِاسْتِحَاضَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَقَدِ انْتَقَضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ.
قُلْنَا: الْعِلَّةُ غَيْرُ مَنْقُوضَةٍ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ فَاسِدٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةٍ تَدْفَعُهَا طَبِيعَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ طَرِيقِ الرَّحِمِ، وَلَوِ احْتَبَسَتْ تِلْكَ الْفَضْلَةُ لَمَرِضَتِ الْمَرْأَةُ، فَذَلِكَ الدَّمُ جَارٍ مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذر، أَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ دَمٌ صَالِحٌ يَسِيلُ مِنْ عُرُوقٍ تَنْفَجِرُ فِي عُمْقِ الرَّحِمِ فَلَا يَكُونُ أَذًى، هَذَا مَا عندي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute