للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَاءِ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْمَعَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا التَّيَمُّمَ مَقَامَ الِاغْتِسَالِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ قُرْبَانُهَا إِلَّا عِنْدَ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ: فَأْتُوهُنَّ فِي الْمَأْتَى فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا تُؤْتُوهُنَّ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى، وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ فِي حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: ٩] أَيْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحِلُّ لَكُمْ غِشْيَانُهُنَّ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُنَّ صَائِمَاتٍ، وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ، وَلَا مُحْرِمَاتٍ الثَّالِثُ: وهو قول محمد بن الْحَنَفِيَّةِ فَأْتُوهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْحَلَالِ دُونَ الْفُجُورِ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لَفْظَةَ «حَيْثُ» حَقِيقَةٌ فِي الْمَكَانِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَفْسِيرِ التَّوْبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فَلَا نُعِيدُهُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: التَّوَّابُ هُوَ الْمُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ مَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ يُكْثِرُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ تَكْثِيرَ التَّوْبَةِ مُطْلَقًا وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمُذْنِبِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا وَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ مِنْهُ التَّوْبَةُ.

وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَأْمَنُ أَلْبَتَّةَ مِنَ التَّقْصِيرِ، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ دَفْعًا لِذَلِكَ التَّقْصِيرِ الْمُجَوَّزِ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ التَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ وَرُجُوعُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ مَحْمُودٌ اعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الرُّجُوعِ، إِلَّا أَنَّهَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى مَا فَعَلَ فِي الْمَاضِي، وَالتَّرْكِ فِي الْحَاضِرِ، وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ دُونَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَلِأَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَيَقُولُ:

مُرَادِي مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى التَّوْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ صَحَّ اللَّفْظُ وَسَلِمَ عَنِ السُّؤَالِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ حَمَلْتُهُ عَلَى التَّوْبَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ، لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ الطَّعْنُ وَالسُّؤَالُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْزِيهُ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبَ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَالْمُتَطَهِّرُ هُوَ الَّذِي مَا فَعَلَهُ تَنَزُّهًا عَنْهُ، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّ الذَّنْبَ نَجَاسَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] فَتَرْكُهُ يَكُونُ طَهَارَةً رُوحَانِيَّةً، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهَّرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالْقَبَائِحِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ طَاهِرُ الذَّيْلِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَأْتِيهَا فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، وَأَنْ لَا يَأْتِيَهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى عَلَى مَا قَالَ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ: هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَا قَبْلَ الْآيَةِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الْأَعْرَافِ: ٨٢] فَكَانَ قَوْلُهُ: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ تَرْكَ الْإِتْيَانِ فِي الْأَدْبَارِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَنَا بِالتَّطَهُّرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَلَا جَرَمَ مَدَحَ الْمُتَطَهِّرَ فَقَالَ: