المسألة الثالثة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ نَكَحَتْ زَوْجًا آخَرَ وَأَصَابَهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ مِنَ الطَّلَقَاتِ الْأُولَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا كَمَا لَوْ نَكَحَتْ زَوْجًا بَعْدَ الثَّلَاثِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وُجِدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ مُوجِبَةٌ لِلْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ مَسْبُوقًا بِنِكَاحِ غَيْرِهِ، أَوْ غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِنِكَاحِ غَيْرِهِ فَكَانَ الْكُلُّ دَاخِلًا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا تَزَوَّجَ بِالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلْغَيْرِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ بِأَنْ أَصَابَهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا نِكَاحُ مُتْعَةٍ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا إِذَا أَحَلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا مُطْلَقًا مُعْتَقِدًا بِأَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا طَلَّقَهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَيَأْثَمُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ: هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ دَلِيلُنَا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَهِي بِوَطْءٍ مَسْبُوقٍ بِعَقْدٍ، وَقَدْ وُجِدَتْ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ، فَوَطِئَهَا هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ قَوْلَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَالْمَعْنَى: إِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي الَّذِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَيْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَالزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَذَكَرَ لَفْظَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّرَاجُعِ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً بَيْنَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَنَاكَحَا فَقَدْ تَرَاجَعَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ النِّكَاحِ، فَهَذَا تَرَاجُعٌ لُغَوِيٌّ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ عند ما يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي تَحِلُّ الْمُرَاجَعَةُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ هَاهُنَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي أَنَّ التَّحْلِيلَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَكَانَتِ الْعِدَّةُ وَاجِبَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ، لَأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْمُرَاجَعَةِ حَاصِلٌ عَقِيبَ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ مَا قَدَّمْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَالْكِسَائِيُّ: مَوْضِعُ أَنْ يَتَراجَعا خَفْضٌ بِإِضْمَارِ الْخَافِضِ، تَقْدِيرُهُ: فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنْ ظَنَّا أَيْ إِنْ عَلِمَا وَأَيْقَنَا أَنَّهُمَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّكَ لَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ وَلَكِنْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقُومُ زَيْدٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْقَدَرِ وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة: ٢٢٨] فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ الظَّنُّ فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ الظَّنِّ، أَيْ مَتَى حَصَلَ هَذَا الظَّنُّ، وَحَصَلَ لَهُمَا الْعَزْمُ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، حَسُنَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute