حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَيْضًا أَنَّهَا بِهَذَا النُّقْصَانِ أَرَادَتْ إِلْحَاقَ الشَّيْنِ بِالْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِقِلَّةِ الْمُهُورِ، وَيَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَتِهَا، وَلِهَذَا يَكْتُمُونَ الْمَهْرَ الْقَلِيلَ حَيَاءً وَيُظْهِرُونَ الْمَهْرَ الْكَثِيرَ رِيَاءً، وَأَيْضًا فَإِنَّ نِسَاءَ الْعَشِيرَةِ يَتَضَرَّرْنَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِبَعْضِهِنَّ، / فَيَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ بِهَذَا الْمَهْرِ الْقَلِيلِ، فَلَا جَرَمَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَمْنَعُوهَا عَنْ ذَلِكَ وَيَنُوبُوا عَنْ نِسَاءِ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ قَرَنَهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْوَعْظِ أَنْ يَتَضَمَّنَ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي الْمُوَافَقَةِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ تَهْدِيدًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ وَحَّدَ الْكَافَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ مَعَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ جَمَاعَةً؟.
وَالْجَوَابُ: هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَالتَّثْنِيَةُ أَيْضًا جَائِزَةٌ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا، قَالَ تَعَالَى: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يُوسُفَ: ٣٧] وَقَالَ: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يُوسُفَ: ٣٢] وَقَالَ: يُوعَظُ بِهِ وَقَالَ:
أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٢] .
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّصَ هَذَا الْوَعْظَ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ؟.
الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُنْتَفِعَ بِهِ حَسُنَ تَخْصِيصُهُ بِهِ كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ هُدًى لِلْكُلِّ، كَمَا قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَقَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥] ، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنْذِرًا لِلْكُلِّ كَمَا قَالَ: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: ١] وَثَانِيهَا: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الدِّينِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَلَمَّا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ غَيْرُ حَاصِلٍ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ عَامٌّ، قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَيَانَ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَعْظًا مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّكَالِيفَ إِنَّمَا تُوجَبُ عَلَى الْكُفَّارِ عَلَى سَبِيلِ إِثْبَاتِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاهِرِ الْمُلْزِمِ الْمُعْجِزِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُقِرُّ بِحَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تُذْكَرُ لَهُ وَتُشْرَحُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَالتَّحْذِيرِ، ثُمَّ قَالَ: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ إِذَا نَمَا فَقَوْلُهُ: أَزْكى لَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَقَوْلُهُ:
وَأَطْهَرُ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَكُونُ حُصُولُهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِقَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ وَجْهَ الصَّلَاحِ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّ التَّفْصِيلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ وَنَهَى بِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَبِحَسَبِ التَّقْدِيرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ بِهَا وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute