للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ هُوَ تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ جَائِزٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:

إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ جَائِزٌ، وَبَعْدَهُ أَيْضًا جَائِزٌ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ لَمَّا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْفِطَامِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ كَانَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى جَوَازِ الْفِطَامِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ فَقَطْ.

وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَحْتَاجُ إِلَى الرَّضَاعِ وَيَضُرُّ بِهِ فَطْمُهُ كَمَا يَضُرُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ حُصُولَ الْمَضَرَّةِ فِي الْفِطَامِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ نَادِرٌ وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْهُودِ وَاجِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

القول الثاني: في تفسير الفصال، وهو أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِصَالِ إِيقَاعُ الْمُفَاصَلَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ إِذَا حَصَلَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ إِلَى الْوَلَدِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّشَاوُرُ فِي اللُّغَةِ: اسْتِجْمَاعُ الرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ الْمَشُورَةُ وَالْمَشُورَةُ مَفُعْلَةٌ مِنْهُ كَالْمَعُونَةِ، وَشُرْتُ الْعَسَلَ اسْتَخْرَجْتُهُ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَأَشَرْتُهَا أَيْ أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا، وَالشَّوَارُ مَتَاعُ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ، وَقَالُوا: شَوَّرْتُهُ فَتَشَوَّرَ، أَيْ خَجَّلْتُهُ، وَالشَّارَةُ هَيْئَةُ الرَّجُلِ، لِأَنَّهُ مَا يَظْهَرُ مِنْ زِيِّهِ وَيَبْدُو مِنْ زِينَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِخْرَاجُ مَا فِي نَفْسِكَ، وَإِظْهَارُهُ لِلْمُخَاطَبِ بِالنُّطْقِ وَبِغَيْرِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ فِي أَقَلَّ مِنْ حَوْلَيْنِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَعِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ مَعَ أَرْبَابِ التَّجَارِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَمَلُّ مِنَ الرَّضَاعِ فَتُحَاوِلُ الْفِطَامَ وَالْأَبُ أَيْضًا قَدْ يَمَلُّ مِنْ إِعْطَاءِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ، فَقَدْ يُحَاوِلُ الْفِطَامَ دَفْعًا لِذَلِكَ، لَكِنَّهُمَا قَلَّمَا يَتَوَافَقَانِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ لِغَرَضِ النَّفْسِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ تَوَافُقِهِمَا اعْتُبِرَ الْمُشَاوَرَةُ مَعَ غَيْرِهِمَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَبْعُدُ أَنْ تَحْصُلَ مُوَافَقَةُ الْكُلِّ عَلَى مَا يَكُونُ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالْوَلَدِ، فَعِنْدَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطَامَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَضُرُّهُ الْبَتَّةَ فَانْظُرْ إِلَى إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الطِّفْلِ الصَّغِيرِ كَمْ شَرَطَ فِي جَوَازِ إِفْطَامِهِ مِنَ الشَّرَائِطِ دَفْعًا لِلْمَضَارِّ عَنْهُ، ثُمَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ كُلِّ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَمْ يُصَرِّحْ بالإذن/ بل قال: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَكْثَرَ ضَعْفًا كَانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ معه أكثر وعناية به أشد.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ الْأُمِّ وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِالرَّضَاعِ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعُدُولُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ الْأُمِّ إِلَى غَيْرِهَا ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَرْضَعَ مَنْقُولٌ مِنْ أَرْضَعَ، يُقَالُ: أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ وَاسْتَرْضَعَهَا الصَّبِيُّ، فَتُعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْجَحَ الْحَاجَةَ وَاسْتَنْجَحَتْهُ الْحَاجَةُ وَالْمَعْنَى: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْمَرَاضِعَ أَوْلَادَكُمْ، فَحُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَنْجَحْتُ الْحَاجَةَ وَلَا تَذْكُرُ مَنِ اسْتَنْجَحْتَهُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ آخِرُهُمَا عِبَارَةً عَنِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا