التِّلَاوَةِ لَا يَمْنَعُ التَّأَخُّرَ فِي النُّزُولِ، إِذْ لَيْسَ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ، وَإِنَّمَا تَرْتِيبُ التِّلَاوَةِ فِي الْمَصَاحِفِ هُوَ تَرْتِيبُ جِبْرِيلَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ سَبَبُهَا الْوَفَاةُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْوَفَاةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَمْ تَعْلَمْ بِوَفَاةِ زَوْجِهَا لَا تَعْتَدُّ بِانْقِضَاءِ الْأَيَّامِ فِي الْعِدَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا قَصَدَتْ هَذَا التَّرَبُّصَ، وَالْقَصْدُ إِلَى التَّرَبُّصِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا السَّبَبُ هُوَ الْمَوْتُ، فَلَوِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أَوْ أَكْثَرُهَا ثُمَّ بَلَغَهَا خَبَرُ وَفَاةِ الزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ بِمَا انْقَضَى، قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا يَكْفِي فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا انْقِضَاءُ هَذِهِ الْمُدَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ تَرَبُّصِهَا بِنَفْسِهَا الِامْتِنَاعُ عَنِ النِّكَاحِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فِيهِ: وَالِامْتِنَاعُ عَنِ التَّزَيُّنِ وَهَذَا اللَّفْظُ كَالْمُجْمَلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ فِي أَيِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الِامْتِنَاعُ عَنِ النِّكَاحِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ فَوَاجِبٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَأَمَّا تَرْكُ التَّزَيُّنِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لِمَا
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي حِلَّ الْإِحْدَادِ لَا وُجُوبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا
رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَلَبَّثِي ثَلَاثًا ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ» .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ فَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْفُرُوعِ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كَانُوا هُمُ الْعَامِلِينَ بِذَلِكَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥] مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنْذِرًا لِلْكُلِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: ١] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَالْمَعْنَى إِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ الَّتِي هِيَ أَجَلُ الْعِدَّةِ فَلَا جُنَاحَ/ عَلَيْكُمْ قِيلَ الْخِطَابُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْعَقْدَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ مَعَ الْحُكَّامِ وَصُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ إِنْ تَزَوَّجْنَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْعُهُنَّ عَنْ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ، فَإِنْ عَجَزَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالسُّلْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ اشْتِمَالُ فَرْجِهَا عَلَى مَاءِ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ تَقْدِيرُهُ: لَا جُنَاحَ عَلَى النِّسَاءِ وَعَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ مَا يَحْسُنُ عَقْلًا وَشَرْعًا لِأَنَّهُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَلَالُ مِنَ التَّزَوُّجِ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِ الصِّحَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالتَّهْدِيدِ، فَقَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا تَنْفَرِدُ الْمَرْأَةُ بِفِعْلِهِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الْغَيْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَتِمُّ بِالْمَرْأَةِ وَحْدَهَا مِنَ التَّزَيُّنِ وَالتَّطَيُّبِ وَغَيْرِهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، قَالُوا: إِنَّهَا إِذَا زوجت