للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ، أَمَّا بَيَانُ دَلَالَتِهَا عَلَى الصِّحَّةِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ مَشْرُوعًا، وَلَمْ تَكُنِ الْمُتْعَةُ لَازِمَةً، وَأَمَّا أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّحَّةِ الْجَوَازُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ حَرَامٌ وَمَعَ ذَلِكَ وَاقِعٌ وَصَحِيحٌ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِيسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدُّخُولُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَإِنَّمَا كَنَّى تَعَالَى بِقَوْلِهِ: تَمَسُّوهُنَّ عَنِ الْمُجَامَعَةِ تَأْدِيبًا لِلْعِبَادِ فِي اخْتِيَارِ أَحْسَنِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا يَتَخَاطَبُونَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فَالْمَعْنَى يُقَدِّرُ لَهَا مِقْدَارًا مِنَ الْمَهْرِ يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ (أَوْ) هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيُرِيدُ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٧] وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِيمَا لَخَّصْنَاهُ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ مُتَكَلَّفٌ، بَلْ خَطَأٌ قَطْعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَهْرَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَسِيسِ، وَالتَّقْدِيرِ بَيَّنَ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَهَا وَاجِبَةٌ، وَتَفْسِيرُ لَفْظِ الْمُتْعَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: ١٩٦] .

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُطَلَّقَاتُ قِسْمَانِ، مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ يُنْظَرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ فَلَهَا الْمُتْعَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِضَ لَهَا فَلَا مُتْعَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَقِّهَا نِصْفَ الْمَهْرِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتْعَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا الَّتِي فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فَحَسْبُهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ فُرِضَ لَهَا أَوْ لَمْ يُفْرَضْ، فَهَلْ تَسْتَحِقُّ الْمُتْعَةَ، فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي «الْقَدِيمِ» وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مُتْعَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ كَالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَالَ فِي «الْجَدِيدِ» :

بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَهُوَ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ،

وَابْنِ عُمَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤١] وَقَالَ تَعَالَى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [الْأَحْزَابِ: ٢٨] وَكَانَ ذَلِكَ فِي نِسَاءٍ دَخَلَ بِهِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كَالْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتِ الصَّدَاقَ لَا بِمُقَابَلَةِ اسْتِبَاحَةِ عِوَضٍ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْمُتْعَةَ وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ اسْتَحَقَّتِ الصَّدَاقَ بِمُقَابَلَةِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ فَتَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ لِلْإِيحَاشِ بِالْفِرَاقِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتْعَةَ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَهَا وَاجِبَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ/ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَمَتِّعُوهُنَّ وَظَاهِرُ الأمر للإيجاب، وقال: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ فَجَعَلَ مِلْكًا لَهُنَّ أَوْ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَجَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَذَا الْفِعْلُ إِحْسَانٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ دَيْنٍ فَأَدَّاهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَحْسَنُ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: ٩١] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا تَدَلُّ عَلَى قَوْلِنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فذكره بكلمة (على) هي لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: هَذَا حَقٌّ عَلَى فُلَانٍ، لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ النَّدْبُ بَلِ الْوُجُوبُ.