للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هَلَكُوا، وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَثَرِهِمْ فَإِذَا أَقْرَضَ فَالْمُرَادُ قَطَعَ لَهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ عَمَلِهِ قِطْعَةً يُجَازَى عَلَيْهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْضِ هاهنا مَجَازٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ الإنسان شيئا ليرجع إليه مثله وهاهنا الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَلَهُ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْفَاقِ وَبَيْنَ الْقَرْضِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْقَرْضِ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمِثْلَ، وَفِي هَذَا الْإِنْفَاقِ هُوَ الضِّعْفُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسْتَقْرِضُ لا يكون ملكا له وهاهنا هَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِلْكٌ لِلَّهِ، ثُمَّ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الْفُرُوقِ سَمَّاهُ اللَّهُ قَرْضًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَمَا أَنَّ الْقَرْضَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فَكَذَا الثَّوَابُ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ وَاصِلٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ لَا مَحَالَةَ،

وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، فَهُوَ يَطْلُبُ مِنَّا الْقَرْضَ،

وَهَذَا الْكَلَامُ لَائِقٌ بِجَهْلِهِمْ وَحُمْقِهِمْ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ التَّشْبِيهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَعْبُودَهُمْ شَيْخٌ، قَالَ الْقَاضِيَ: مَنْ يَقُولُ فِي مَعْبُودِهِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ/ لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْفَقْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَلِأَيِّ فَائِدَةٍ جَرَى الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ.

قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْفِعْلِ أَقْرَبُ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَرْضاً حَسَناً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَكَانَ ذَلِكَ إِقْرَاضًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقَرْضِ حَسَنًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَرَادَ بِهِ حَلَالًا خَالِصًا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ الْحَرَامُ، لِأَنَّ مَعَ الشُّبْهَةِ يَقَعُ الِاخْتِلَاطُ، وَمَعَ الِاخْتِلَاطِ رُبَّمَا قَبُحَ الْفِعْلُ وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يُتْبِعَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ مَنًّا وَلَا أَذًى وَثَالِثُهَا:

أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ رِيَاءً وَسُمْعَةً لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: فَيُضاعِفَهُ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَيُضاعِفَهُ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ وَالثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ فَيُضاعِفَهُ بِأَلِفٍ وَالنَّصْبِ وَالثَّالِثُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فَيُضَعِّفُهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالرَّفْعِ بِلَا أَلِفٍ وَالرَّابِعُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فَيُضَعِّفَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ.

فَنَقُولُ: أَمَّا التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فَهُمَا لُغَتَانِ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ الْعَطْفُ عَلَى يُقْرِضُ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنْ يُحْمَلَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ قَرْضًا فَيُضَاعِفُهُ، وَالِاخْتِيَارُ الرَّفْعُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَجَوَابُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا رَفْعًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّضْعِيفُ وَالْإِضْعَافُ وَالْمُضَاعَفَةُ وَاحِدٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ حَتَّى يَبْلُغَ مِثْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيُضَاعِفُ ثَوَابَهُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَضْعافاً كَثِيرَةً فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ قَدْرًا مُعَيَّنًا، وَأَجْوَدُ مَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦١] فَيُقَالُ