تَعَالَى، وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا بَالَغَ فِي تَعْظِيمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً ثُمَّ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُكَالَمَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ، حَيْثُ قَالَ: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: ٧٩- ٨١] إِلَى آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى مُكَالَمَةٍ كَثِيرَةٍ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ غَايَةَ الشَّرَفِ فَكَيْفَ حَصَلَ لِإِبْلِيسَ الذَّمُّ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ شَرَفًا فَكَيْفَ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ التَّشْرِيفِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قِصَّةَ إِبْلِيسَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ تِلْكَ الْجَوَابَاتِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَعَلَّ الْوَاسِطَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مَرَاتِبَ الرُّسُلِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِثْلَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَجَمَعَ لِدَاوُدَ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَسَخَّرَ لِسُلَيْمَانَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ وَالرِّيحَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا حَاصِلًا لِأَبِيهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْصُوصٌ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَبِأَنَّ شَرْعَهُ نَاسِخٌ لِكُلِّ الشَّرَائِعِ، وَهَذَا إِنْ حَمَلْنَا الدَّرَجَاتِ عَلَى الْمَنَاصِبِ وَالْمَرَاتِبِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ فَفِيهِ أَيْضًا وَجْهٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُوتِيَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ لَائِقًا بِزَمَانِهِ فَمُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً، وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ، كَانَ كَالشَّبِيهِ بِمَا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مُتَقَدِّمِينَ فِيهِ وَهُوَ السِّحْرُ، وَمُعْجِزَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى، كَانَتْ كَالشَّبِيهِ بِمَا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مُتَقَدِّمِينَ فِيهِ، وَهُوَ الطِّبُّ، وَمُعْجِزَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ الْقُرْآنُ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْخُطَبِ وَالْأَشْعَارِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعْجِزَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَبِالْبَقَاءِ وَعَدَمِ الْبَقَاءِ، وَبِالْقُوَّةِ وَعَدَمِ الْقُوَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَقُوَّةُ الدَّوْلَةِ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ عَلِمْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِلْكُلِّ فَمَنْصِبُهُ أَعْلَى وَمُعْجِزَاتُهُ أَبْقَى وَأَقْوَى وَقَوْمُهُ أَكْثَرُ وَدَوْلَتُهُ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَالرَّمْزِ كَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا عَظِيمًا فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا/ فَيَقُولُ أَحَدُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ وَيُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْخَمَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَسُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَذَكَرَ زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ أَرَادَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ نَفْسِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَخَامَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ كَلَامٌ كُلِّيٌّ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ شُرُوعٌ فِي تفضيل تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ إِعَادَةٌ لِذَلِكَ الْكُلِّيِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعَادَةَ الْكَلَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي تَفْصِيلِ جُزْئِيَّاتِهِ يَكُونُ مُسْتَدْرَكًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ تَفْضِيلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ حَصَلَ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ أَوْ بِدَرَجَاتٍ قَلِيلَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ فلم يكن تكريرا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute