للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَلَمْ يُقِلِ الظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ أَوْهَمَ ذَلِكَ نَفْيَ الْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ فَلَمْ يَجِبْ تَعْلِيقُهُ بِمَا تَقَدَّمَ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأً تَطَرَّقَ الْخُلْفُ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَأَنَّ غَيْرَ الْكَافِرِينَ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا، أَمَّا إِذَا عَلَّقْنَاهُ بِمَا تَقَدَّمَ زَالَ الْإِشْكَالُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِمَا قَبْلَهُ.

التأويل الثاني: أن الكافرون إِذَا دَخَلُوا النَّارَ عَجَزُوا عَنِ التَّخَلُّصِ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ اخْتَارُوا الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ حَتَّى صَارُوا مُسْتَحِقِّينَ لِهَذَا الْعَذَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْفِ: ٤٩] .

وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ حَيْثُ تَرَكُوا تَقْدِيمَ الْخَيْرَاتِ لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْحَاضِرُونَ لَا تَقْتَدُوا بِهِمْ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ الرَّدِيءِ، وَلَكِنْ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَا تَجْعَلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدْيَةً لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.

وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِوَضْعِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، لِتَوَقُّعِهِمُ الشَّفَاعَةَ مِمَّنْ لَا يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ في الأوثان: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨] ، وَقَالُوا أَيْضًا:

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] فَمَنْ عَبَدَ جَمَادًا وَتَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حَيْثُ توقع الخبر مِمَّنْ لَا يَجُوزُ التَّوَقُّعُ مِنْهُ.

وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ تَرْكُ الْإِنْفَاقِ، قَالَ تَعَالَى: آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْفِ:

٣٣] أَيْ أَعْطَتْ وَلَمْ تَمْنَعْ فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ وَالْكَافِرُونَ التَّارِكُونَ لِلْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ.

وَالتَّأْوِيلُ السَّادِسُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الظُّلْمِ الْبَالِغُونَ الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ أَيْ هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْعِلْمِ فَكَذَا هاهنا، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ رَحِمَهُ الله والله أعلم.

تم الجزء السادس، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أعان الله على إكماله