ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ تَدْبِيرِ الْخَلْقِ، لِأَنَّ الْقَيِّمَ بِأَمْرِ الطِّفْلِ لَوْ غَفَلَ عَنْهُ سَاعَةً لَاخْتَلَّ أَمْرُ الطِّفْلِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ قَيِّمُ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، وَقَيُّومُ الْمُمْكِنَاتِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ تَدْبِيرِهِمْ، فَقَوْلُهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ كَالتَّأْكِيدِ لِبَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى قَائِمًا، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ ضَيَّعَ وَأَهْمَلَ: إِنَّكَ لو سنان نَائِمٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ، مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ إِنَّمَا تَقَوَّمَتْ مَاهِيَّتُهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ وُجُودُهُ بِتَقْوِيمِهِ وَتَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُلْكًا لَهُ وَمِلْكًا لَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ وَالْمَالِكُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي الْكُلِّ جَارٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ حُكْمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْكُلِّ، أَنْ لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِي مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْكُلِّ وَكَوْنِ غَيْرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْكُلِّ، أَنْ لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِي مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِالْكُلِّ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ غَيْرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السموات وَفِي الْأَرْضِ، بَيَّنَ أَنَّ مُلْكَهُ فِيمَا وَرَاءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَوْهَامُ الْمُتَوَهِّمِينَ وَيَنْقَطِعُ دُونَ الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها الْمُتَخَيِّلِينَ، فَقَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَفَاذَ حُكْمِهِ وَمُلْكِهِ فِي الْكُلِّ عَلَى نَعْتٍ وَاحِدٍ، وَصُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُقَوِّمًا لِلْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، بَيَّنَ كَوْنَهُ قَيُّومًا بِمَعْنَى قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ، مُنَزَّهًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى مَكَانٍ، أَوْ مُتَغَيِّرًا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى زَمَانٍ، فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعُلُوُّ وَالْعَظَمَةُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَا يُنْسَبُ غَيْرِهِ فِي صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ وَلَا فِي نَعْتٍ مِنَ النُّعُوتِ، فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ إِشَارَةً إِلَى مَا بَدَأَ بِهِ فِي
الْآيَةِ مِنْ كَوْنِهِ قَيُّومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ مُقَوِّمًا لِغَيْرِهِ، وَمَنْ أَحَاطَ عَقْلُهُ بِمَا ذَكَرْنَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ كَلَامٌ أَكْمَلَ، وَلَا بُرْهَانٌ أَوْضَحَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَسْرَارَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَهُوَ خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ إِلَهًا فِي الْأَزَلِ، وَمَا كَانَ مَعْبُودًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ مَعْبُودًا سِوَاهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْبِيَاءِ:
٩٨] بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا إِذَا فَعَلَهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ الْحَيُّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَيُّ أَصْلُهُ حَيِيٌ كَقَوْلِهِ: حَذِرٌ وَطَمِعٌ فَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُهُ الْحَيْوُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute