الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَعْبَةِ، فَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَهَذَا جَوَابٌ مُبِينٌ إِلَّا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ تَرْكَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما فاعلم أنه يقال: آده يؤده: إِذَا أَثْقَلَهُ وَأَجْهَدَهُ، وَأُدْتُ الْعُودَ أَوْدًا، وَذَلِكَ إِذَا اعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ بِالثِّقْلِ حَتَّى أَمَلْتَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَثْقُلُهُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُهُمَا أَيْ حفظ السموات وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُلُوَّ بِالْجِهَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كثيرة، ونزيد هاهنا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ، لَكَانَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ، كَانَ الْجُزْءُ الْمَفْرُوضُ فَوْقَهُ أَعْلَى مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ أَعْلَى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ بُعْدٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ بَاطِلٌ بِالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّا إِذَا قَدَّرْنَا بُعْدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، لَافْتُرِضَ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ نُقَطٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي تِلْكَ النُّقَطِ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُفْتَرَضُ فَوْقَهَا نُقْطَةٌ أُخْرَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْصُلَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَتِ النُّقْطَةُ طَرَفًا لِذَلِكَ الْبُعْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبُعْدُ مُتَنَاهِيًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ مُتَنَاهٍ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا نُقْطَةٌ إِلَّا وَفَوْقَهَا نُقْطَةٌ أُخْرَى كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ النُّقَطِ الْمُفْتَرَضَةِ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ سُفْلًا، وَلَا يَكُونُ فِيهَا مَا يَكُونُ فَوْقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مِنَ النفقات الْمُفْتَرَضَةِ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ عُلُوٌّ مُطْلَقٌ الْبَتَّةَ وَذَلِكَ يَنْفِي صِفَةَ الْعُلْوِيَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ جَانِبٍ يَفْرِضُ عُلُوًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الْأَرْضِ يَكُونُ سُفْلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَيَنْقَلِبُ غَايَةُ الْعُلُوِّ غَايَةَ السُّفْلِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَكُونُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِذَاتِهِ، وَلِلْآخَرِ بِتَبَعِيَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الذَّاتِيِّ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَفِي الْعَرَضِيِّ أَقَلَّ وَأَضْعَفَ، فَلَوْ كَانَ عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الْمَكَانِ لَكَانَ عُلُوُّ الْمَكَانِ الَّذِي بِسَبَبِهِ حَصَلَ هَذَا الْعُلُوُّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةً ذَاتِيَّةً، وَلَكَانَ حُصُولُ هَذَا الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى حُصُولًا بِتَبَعِيَّةِ حُصُولِهِ فِي الْمَكَانِ، فَكَانَ عُلُوُّ الْمَكَانِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ عُلُوِّ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ عُلُوُّ اللَّهِ نَاقِصًا وَعُلُوُّ غَيْرِهِ كَامِلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَاطِعَةٌ فِي أَنَّ عُلُوَّ اللَّهِ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْجِهَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١٢] قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ وَالْمَكَانِيَّاتِ بِأَسْرِهَا مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: ١٣] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ وَالزَّمَانِيَّاتِ بِأَسْرِهَا مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ، فَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهُ بِسَبَبِ الْمَكَانِ وَأَمَّا عَظَمَتُهُ فَهِيَ أَيْضًا بِالْمَهَابَةِ وَالْقَهْرِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ الْمِقْدَارِ وَالْحَجْمِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ أَوْ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَدَمُ إِثْبَاتِ أَبْعَادٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ كَانَتِ الْأَحْيَازُ الْمُحِيطَةُ بِذَلِكَ الْمُتَنَاهِي أَعْظَمَ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ عَظِيمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظالمون علواً كبيراً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute