للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيْ تَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْإِيمَانُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ بِكَثْرَةِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَى قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ أَيْ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ وَانْجَلَى بِالْأَدِلَّةِ لَا أَنَّ كَلَّ مُكَلَّفٍ تَنَبَّهَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ ذَلِكَ وَأَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى تَبَيَّنَ انْفَصَلَ وَامْتَازَ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَ الرُّشْدِ وَالْغَيِّ بِسَبَبِ قُوَّةِ الدَّلَائِلِ وَتَأْكِيدِ الْبَرَاهِينِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ اللَّفْظُ مُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ: الطَّاغُوتُ وَزْنُهُ فَعَلُوتُ، نَحْوُ جَبَرُوتٍ، وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ طَغَا، وَتَقْدِيرُهُ طَغَوُوتُ، إِلَّا أَنَّ لَامَ الْفِعْلِ قُلِبَتْ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ كَعَادَتِهِمْ فِي الْقَلْبِ، نَحْوَ: الصَّاقِعَةُ وَالصَّاعِقَةُ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ حَرَكَةِ وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الطَّاغُوتِ: الْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنَّهُ جَمْعٌ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّاغُوتَ مَصْدَرٌ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْمَلَكُوتِ، فَكَمَا/ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ آحَادٌ كَذَلِكَ هَذَا الِاسْمُ مُفْرَدٌ وَلَيْسَ بِجَمْعٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مصدر مفرد قوله أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فَأُفْرِدَ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ: هُمْ رضاهم عَدْلٌ، قَالُوا: وَهَذَا اللَّفْظُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، أَمَّا فِي الْوَاحِدِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاءِ: ٦٠] وَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] وَقَالُوا: الْأَصْلُ فِيهِ التَّذْكِيرُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزُّمَرِ: ١٧] فَإِنَّمَا أُنِّثَتْ إِرَادَةُ الْآلِهَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: قَالَ عُمَرُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُوَ الشَّيْطَانُ الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْكَاهِنُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ السَّاحِرُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْأَصْنَامُ الْخَامِسُ:

أَنَّهُ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَكُلُّ مَا يَطْغَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ الِاتِّصَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَسْبَابًا لِلطُّغْيَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦] .

أَمَّا قَوْلُهُ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَتُوبَ أَوَّلًا عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ يُؤْمِنَ بَعْدَ ذَلِكَ.

أَمَّا قَوْلُهُ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَمْسَكَ بِالشَّيْءِ إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ وَالْعُرْوَةُ جَمْعُهَا عُرًا نَحْوَ عُرْوَةِ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَعَلَّقُ بِهِ وَالْوُثْقَى تَأْنِيثُ الْأَوْثَقِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ إِمْسَاكَ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِعُرْوَتِهِ، فَكَذَا هاهنا مَنْ أَرَادَ إِمْسَاكَ هَذَا الدِّينِ تَعَلَّقَ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ دَلَائِلُ الْإِسْلَامِ أَقْوَى الدَّلَائِلِ وَأَوْضَحَهَا، لَا جَرَمَ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى.

أَمَّا قَوْلُهُ لَا انْفِصامَ لَها فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَصْمُ كَسْرُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ، وَالِانْفِصَامُ مُطَاوِعُ الْفَصْمِ فَصَمْتُهُ فَانْفَصَمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا انْفِصَامٌ، فَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا انْقِطَاعٌ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: نَظْمُ الْآيَةِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَالْعَرَبُ تُضْمِرُ (الَّتِي) وَ (الَّذِي) وَ (مَنْ) وَتَكْتَفِي بِصَلَاتِهَا مِنْهَا، قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:

وَالْعَادِيَاتُ أَسَامِي لِلدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أنصاب ترحيب