أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ سَابِقٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بُعِثُوا لِلدَّعْوَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَتَى ادَّعَى الرِّسَالَةَ، فَإِنَّ الْمُنْكِرَ يُطَالِبُهُ بِإِثْبَاتِ أَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام لما قال: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزخرف: ٤٦] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] فَاحْتَجَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فكذا هاهنا الظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ادَّعَى الرِّسَالَةَ، فَقَالَ نَمْرُوذُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ حُذِفَتْ، لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ تَدُلُّ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلِيلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَفْعَالِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَادِرِينَ، وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْهُمَا، وَالْعِلْمُ بَعْدَ الِاخْتِيَارِ ضَرُورِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُؤَثِّرٍ آخَرَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْقَادِرِينَ الَّذِينَ تَرَاهُمْ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجَبًا أَوْ مُخْتَارًا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ دَوَامِهِ دَوَامُ الْأَثَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَتَبَدَّلَ الْإِحْيَاءُ بِالْإِمَاتَةِ، وَأَنْ لَا تَتَبَدَّلَ الْإِمَاتَةُ بِالْإِحْيَاءِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّا نَرَى فِي الْحَيَوَانِ أَعْضَاءً مُخْتَلِفَةً فِي الشَّكْلِ وَالصِّفَةِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ، وَتَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِنْ وُجُودٍ آخَرَ يُؤَثِّرُ عَلَى سَبِيلِ الْقُدْرَةِ، وَالِاخْتِيَارِ فِي إِحْيَاءِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ وَفِي إِمَاتَتِهَا، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ دَلِيلٌ مَتِينٌ قَوِيٌّ ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مَوَاضِعَ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ/ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] إِلَى آخِرِهِ، وَقَوْلِهِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّينِ: ٤، ٥] وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨] وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٨١] فَلِأَيِّ سَبَبٍ قُدِّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ، حَيْثُ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ إِذَا كَانَ هُوَ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَجَائِبَ الْخِلْقَةِ حَالَ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ، وَاطِّلَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا أَتَمُّ، فَلَا جَرَمَ وَجَبَ تقديم الحياة هاهنا فِي الذِّكْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا احْتَجَّ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ، دَعَا ذَلِكَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ شَخْصَيْنِ، وَقَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَاسْتَبْقَى الْآخَرَ، وَقَالَ: أَنَا أَيْضًا أُحْيِي وَأُمِيتُ، هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي التَّفْسِيرِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بَعِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ شَرَحَ حَقِيقَةَ الْإِحْيَاءِ وَحَقِيقَةَ الْإِمَاتَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَمَتَى شرحه على ذلك الوجه الممتنع أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَى الْعَاقِلِ الْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءُ بِمَعْنَى الْقَتْلِ وَتَرْكِهِ، وَيَبْعُدُ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونُوا فِي الْحَمَاقَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute