وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ هَذَا مَا كَانَ انْتِقَالًا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ بَلِ الدَّلِيلُ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ أَنَّا نَرَى حُدُوثَ أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى إِحْدَاثِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ آخَرَ يَتَوَلَّى إِحْدَاثَهَا وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَنَا: نَرَى حُدُوثَ أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى إِحْدَاثِهَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا: الْإِحْيَاءُ، وَالْإِمَاتَةُ، وَمِنْهَا السَّحَابُ، وَالرَّعْدُ، وَالْبَرْقُ، وَمِنْهَا حَرَكَاتُ/ الْأَفْلَاكِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالْمُسْتَدِلُّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، لَكِنْ إِذَا ذَكَرَ لِإِيضَاحِ كَلَامٍ مِثَالًا فَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ، فَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَابِ مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ يَقَعُ الِانْتِقَالُ عِنْدَ إِيضَاحِهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يَقَعُ الِانْتِقَالُ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَلْيَقُ بِكَلَامِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنْهُ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِمَا مِنْ وُجُوهٍ:
الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ صَاحِبَ الشُّبْهَةِ إِذَا ذَكَرَ الشُّبْهَةَ، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ فِي الْأَسْمَاعِ، وَجَبَ عَلَى الْمُحِقِّ الْقَادِرِ عَلَى الْجَوَابِ أَنْ يَذْكُرَ الْجَوَابَ فِي الْحَالِ إِزَالَةً لِذَلِكَ التَّلْبِيسِ وَالْجَهْلِ عَنِ الْعُقُولِ، فَلَمَّا طَعَنَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ، أَوْ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِإِزَالَةِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ وَاجِبًا مُضَيِّقًا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْمَعْصُومِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ الْوَاجِبَ.
وَالْإِشْكَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَوْرَدَ الْمُبْطِلُ ذَلِكَ السُّؤَالَ، فَإِذَا تَرَكَ الْمُحِقُّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ وَانْتَقَلَ إِلَى كَلَامٍ آخَرَ، أَوْهَمَ أَنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ كَانَ ضَعِيفًا سَاقِطًا، وَأَنَّهُ مَا كَانَ عَالِمًا بِضَعْفِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمُبْطِلَ عَلِمَ وَجْهَ ضَعْفِهِ وكونه ساقطاً، وأنه كأنه عَالِمًا بِضَعْفِهِ فَنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَهَذَا رُبَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ وَقْعِ الرَّسُولِ وَحَقَارَةَ شَأْنِهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالْإِشْكَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الِانْتِقَالَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ، لَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وهاهنا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ جِنْسَ الْإِحْيَاءِ لَا قُدْرَةَ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا جِنْسُ تَحْرِيكِ الْأَجْسَامِ، فَلِلْخَلْقِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَبْعُدُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ مَلِكٍ عَظِيمٍ فِي الْجُثَّةِ أَعْظَمُ مِنَ السموات، وأنه هو الذي يكون محركاً للسموات، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ الْمَعْصُومِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الدَّلِيلِ الْأَوْضَحِ الْأَظْهَرِ إِلَى الدَّلِيلِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوِيًّا.
وَالْإِشْكَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى فِي ذَاتِ الْإِنْسَانِ وَصِفَاتِهِ تَبْدِيلَاتٍ وَاخْتِلَافَاتٍ وَالتَّبَدُّلُ قَوِيُّ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ الْقَادِرِ، أَمَّا الشَّمْسُ فَلَا نَرَى فِي ذَاتِهَا تَبَدُّلًا، وَلَا فِي صِفَاتِهَا تَبَدُّلًا، وَلَا فِي مَنْهَجِ حَرَكَاتِهَا تَبَدُّلًا الْبَتَّةَ، فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى الصَّانِعِ أَقْوَى، فَكَانَ الْعُدُولُ مِنْهُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ انْتِقَالًا مِنَ الْأَقْوَى الْأَجْلَى إِلَى الْأَخْفَى الْأَضْعَفِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.
الْإِشْكَالُ الْخَامِسُ: أَنْ نَمْرُوذَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِ مِنْ مُعَارَضَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ الصَّادِرَيْنِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَتْلِ وَالتَّخْلِيَةِ، فَكَيْفَ يُؤْمَنُ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِدْلَالِ إِبْرَاهِيمَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ أَنْ يَقُولَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ مِنِّي فَإِنْ كَانَ لَكَ إِلَهٌ فَقُلْ لَهُ حَتَّى يُطْلِعَهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَزَمَ الْمُحَقِّقُونَ/ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِإِظْهَارِ فَسَادِ سُؤَالِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute