للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وَلَوْ كَانَ شَاكًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وَذَلِكَ كَلَامُ عَارِفٍ طَالِبٍ لِمَزِيدِ الْيَقِينِ، وَمِنْهَا أَنَّ الشَّكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى يُوجِبُ الشَّكَّ فِي النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ يَعْرِفُ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ

وَالثَّانِي: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ عَارِفًا بِهِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ شَيْءٌ آخَرُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي لِيَطْمَئِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: سَأَلْتُ ذَلِكَ إِرَادَةَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، قَالُوا. وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ الْخَوَاطِرُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ وَإِلَّا فَالْيَقِينُ حَاصِلٌ عَلَى كلتا الحالتين.

وهاهنا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ أَنَّ التَّفْسِيرَ مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْعُلُومَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ سُؤَالٌ صَعْبٌ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَوِّزًا لِنَقِيضِهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ جَوَّزَ نَقِيضَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَذَاكَ ظَنٌّ قَوِيٌّ لَا اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ نَقِيضَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ امْتَنَعَ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ فِي الْعُلُومِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا قُلْنَا الْمَطْلُوبُ هُوَ حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي اعْتِقَادِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِحْيَاءِ، أَمَّا لَوْ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَخَذَ طَاوُسًا وَنَسْرًا وَغُرَابًا وَدِيكًا، وَفِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حمامة بدل النسر، وهاهنا أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الطَّيْرَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّيَرَانَ فِي السَّمَاءِ، وَالِارْتِفَاعَ فِي الْهَوَاءِ، وَالْخَلِيلُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَلَكُوتِ فَجُعِلَتْ مُعْجِزَتُهُ مُشَاكِلَةً لِهِمَّتِهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَبَحَ الطُّيُورَ وَجَعَلَهَا قِطْعَةً قِطْعَةً، وَوَضَعَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ جَبَلٍ قِطَعًا مُخْتَلِطَةً، ثُمَّ دَعَاهَا طَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ، فَقِيلَ لَهُ كَمَا طَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ كَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطِيرُ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُشَاكِلِهِ حَتَّى تتألف الأبدان وتتصل بها الْأَرْوَاحُ، وَيُقَرِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَرِ: ٧] .

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ كَانَ حَاصِلًا بِحَيَوَانٍ وَاحِدٍ، فَلِمَ أَمَرَ بِأَخْذِ أَرْبَعِ حَيَوَانَاتٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّكَ سَأَلْتَ وَاحِدًا عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَنَا أُعْطِي أَرْبَعًا عَلَى قَدْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الطُّيُورَ الْأَرْبَعَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي مِنْهَا تَرْكِيبُ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْإِشَارَةُ فِيهِ أَنَّكَ مَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ هَذِهِ الطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَقْدِرُ طَيْرُ الرُّوحِ عَلَى الِارْتِفَاعِ إِلَى هَوَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصَفَاءِ عَالَمِ الْقُدْسِ.