للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِهَذَا الْحَرْفِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخُذْ إِلَيْكَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ.

قُلْنَا: الْتِزَامُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُلْجِئٌ إِلَى الْتِزَامِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ ادْعُهُنَّ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى أَجْزَائِهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً مُتَفَاصِلَةً وَكَانَ الْمَوْضُوعُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَا إِلَيْهَا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قوله يَأْتِينَكَ سَعْياً عائدا إلى أجزائها لَا إِلَى أَجْزَائِهَا، وَعَلَى قَوْلِكُمْ إِذَا سَعَى بَعْضُ الْأَجْزَاءِ إِلَى بَعْضٍ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَأْتِينَكَ عَائِدًا إِلَى أَجْزَائِهَا لَا إِلَيْهَا، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَبْحُ تِلْكَ الطُّيُورِ وَتَقْطِيعُ أَجْزَائِهَا، فَيَكُونُ إِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارًا لِلْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْغَيْرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ اللَّهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ لَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً يَدُلُّ عَلَى أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّهُ أَضَافَ الْجُزْءَ إِلَى الْأَرْبَعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجُزْءِ هُوَ الْوَاحِدُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتَهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْجُزْءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ وَالتَّقْدِيرُ: فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا أَوْ بَعْضًا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلى كُلِّ جَبَلٍ جَمِيعُ جِبَالِ الدُّنْيَا، فَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَاكُ إِلَى الْعُمُومِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَرِّقْهَا عَلَى كُلِّ جَبَلٍ يُمْكِنُكَ التَّفْرِقَةُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ أَرْبَعَةُ جِبَالٍ عَلَى حَسَبِ الطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَى حَسَبِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا أَعْنِي الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَالشَّمَالَ وَالْجَنُوبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: سَبْعَةٌ مِنَ الْجِبَالِ لِأَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ جَبَلٍ يُشَاهِدُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ دُعَاءُ الطَّيْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالْجِبَالُ الَّتِي كَانَ يُشَاهِدُهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِذَبْحِهَا وَنَتْفِ رِيشِهَا وَتَقْطِيعِهَا جُزْءًا جُزْءًا وَخَلْطِ دِمَائِهَا ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثُمَّ أُمِرَ بِأَنْ يَجْعَلَ أَجْزَاءَهَا عَلَى الْجِبَالِ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ رُبْعًا مِنْ كُلِّ طَائِرٍ، ثُمَّ يَصِيحُ بِهَا: تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ جُزْءٍ يَطِيرُ إِلَى الْآخَرِ حَتَّى تَكَامَلَتِ الْجُثَثُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ كُلُّ جُثَّةٍ إِلَى رَأْسِهَا وَانْضَمَّ كُلُّ رَأْسٍ إِلَى جُثَّتِهِ، وَصَارَ الْكُلُّ أَحْيَاءً بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَالْفَضْلِ جُزْءاً مُثَقَّلًا مَهْمُوزًا حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ مُهَمَّزًا مُخَفَّفًا وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً فَقِيلَ عَدْوًا وَمَشْيًا عَلَى أَرْجُلِهِنَّ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ، وَقِيلَ طَيَرَانًا وَلَيْسَ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلطَّيْرِ إِذَا طَارَ: سَعَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ السَّعْيَ هُوَ الِاشْتِدَادُ فِي الْحَرَكَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَرَكَةُ طَيَرَانًا فَالسَّعْيُ فِيهَا هُوَ الِاشْتِدَادُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَةِ.

وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ