للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَعَاشِرُهَا: أَنَّ إِيمَانَ سَاعَةٍ يَهْدِمُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَالْإِيمَانُ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ يُهْدَمُ بِفِسْقِ سَاعَةٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْمُحَابَطَةِ، فِي تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فنقول: قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى يِحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا تَأْتُوا بِهِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ بِالصَّدَقَةِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الصَّدَقَةُ حِينَ وُجِدَتْ حَصَلَتْ بَاطِلَةً، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَضُرُّنَا الْبَتَّةَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِبْطَالِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الثَّوَابَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أُتْبِعَتْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى صَارَ عِقَابُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مُزِيلًا لِثَوَابِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْفَعُهُمُ التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَوْلَى مَنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُطَابِقُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ قَوْلُهُ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ عَمَلَ هَذَا بَاطِلًا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ بَاطِلًا، لَا أَنَّهُ دَخَلَ صَحِيحًا، ثُمَّ يَزُولُ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ الْكُفْرُ، وَالْكُفْرُ مُقَارِنٌ لَهُ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهُ صَحِيحًا فِي الْوُجُودِ، فَهَذَا الْمَثَلُ يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّفْوَانُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ غُبَارٌ وَتُرَابٌ ثُمَّ أَصَابَهُ وَابِلٌ، فَهَذَا يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ/ الْوَابِلَ مُزِيلًا لِذَلِكَ الْغُبَارِ بَعْدَ وُقُوعِ الْغُبَارِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَكَذَا هاهنا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنُّ وَالْأَذَى مُزِيلَيْنِ لِلْأَجْرِ وَالثَّوَابِ بَعْدَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ، إِلَّا أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِوُقُوعِ الْغُبَارِ عَلَى الصَّفْوَانِ حُصُولُ الْأَجْرِ لِلْكَافِرِ، بَلِ الْمُشَبَّهُ بِذَلِكَ صُدُورُ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي لَوْلَا كَوْنُهُ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ لَكَانَ مُوجِبًا لِحُصُولِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، فَالْمُشَبَّهُ بِالتُّرَابِ الْوَاقِعِ عَلَى الصَّفْوَانِ هُوَ ذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّادِرُ مِنْهُ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْغُبَارَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا بِهِ وَلَا غَائِصًا فِيهِ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الِاتِّصَالُ كَالِانْفِصَالِ، فَهُوَ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ مُتَّصِلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، فَكَذَا الْإِنْفَاقُ الْمَقْرُونُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، يُرَى فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقَيْنِ، وَأَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَمْعِ إِمَّا التَّرْجِيحُ وَإِمَّا الْمُهَايَأَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ عَلَى اللَّهِ بِسَبَبِ صَدَقَتِكُمْ، وَبِالْأَذَى لِذَلِكَ السَّائِلِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: بِالْمَنِّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَبِالْأَذَى لِلْفَقِيرِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنْفَقَ مُتَبَجِّحًا بِفِعْلِهِ، وَلَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ فَكَانَ كَالْمَانِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي أَظْهَرَ لَهُ.

أَمَّا قَوْلُهُ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِي فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَإِبْطَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلَانِ الصَّدَقَةَ، كَمَا أَنَّ النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ يُبْطِلَانِهَا، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمُنَافِقَ وَالْمُرَائِيَ يَأْتِيَانِ بِالصَّدَقَةِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ يَقْرِنُ الصَّدَقَةَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، فَقَدْ أَتَى بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ أَيْضًا إِذْ لَوْ كَانَ غَرَضُهُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا مَنَّ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَا آذَاهُ، فَثَبَتَ اشْتِرَاكُ الصُّورَتَيْنِ فِي كَوْنِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَا أَتَى بِهَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِبْطَالِ الْإِتْيَانُ بِهِ بَاطِلًا، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِتْيَانُ بِهِ صَحِيحًا، ثم إزالته