أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، أَنَّ تَكْرِيرَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَاتِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ يُوَاظِبُ عَلَى الْإِنْفَاقِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ حَصَلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْمُوَاظَبَةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى وَالثَّانِي: صَيْرُورَةُ هَذَا الِابْتِغَاءِ وَالطَّلَبِ مَلَكَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي النَّفْسِ، حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ بِحَيْثُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ وَالِاتِّفَاقِ رَجَعَ الْقَلْبُ فِي الْحَالِ إِلَى جَنَابِ الْقُدْسِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ صَارَتْ كَالْعَادَةِ وَالْخَلْقِ لِلرُّوحِ، فَإِتْيَانُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، يُفِيدُ هَذِهِ الْمَلَكَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ، الَّتِي وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ بِتَثْبِيتِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا التَّثْبِيتِ تَصِيرُ الرُّوحُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ جَوْهَرِ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ، فَصَارَ الْعَبْدُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: غَائِبًا حَاضِرًا، ظَاعِنًا مُقِيمًا وَسَادِسُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ مِنَ التَّثْبِيتِ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَهَا جَازِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضَيِّعُ عَمَلَهُمْ، وَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَهُمْ، لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالنُّشُورِ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ عُدَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ ضَائِعًا، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالثَّوَابِ، فَهَذَا الْجَزْمُ هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّثْبِيتِ وَسَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: الْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْفِقَ يَتَثَبَّتُ فِي إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ فَيَضَعُهَا فِي أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ أَعْطَى، وَإِنْ خَالَطَهُ أَمْسَكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يكون التثبيت، بمعنى التثبيت، لِأَنَّهُمْ ثَبَّتُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَلَبِ الْمُسْتَحِقِّ، وَصَرْفِ الْمَالِ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ شَرَحَ أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ ضَرَبَ لِإِنْفَاقِهِمْ مَثَلًا، فَقَالَ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِرَبْوَةٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ إِلى رَبْوَةٍ وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ، والباقون بضم الراء فيهما، وهو أن أَشْهَرُ اللُّغَاتِ وَلُغَةُ قُرَيْشٍ، وَفِيهِ سَبْعُ لُغَاتٍ (رَبْوَةٌ) بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الرَّاءِ، وَ (رَبَاوَةٌ) بِالْأَلْفِ بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الرَّاءِ، وَ (رَبْوٌ) وَالرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَالَّذِي أَخْتَارُهُ (رُبْوَةٌ) بِالضَّمِّ، لِأَنَّ جَمْعَهَا الرُّبَى، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا ازْدَادَ وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ، لِأَنَّ أَجْزَاءَهَا ارْتَفَعَتْ، وَمِنْهُ الرَّبْوُ إِذَا أَصَابَهُ نَفَسٌ فِي جَوْفِهِ زَائِدٌ، وَمِنْهُ الرِّبَا، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ فِي رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَكْثَرَ رَيْعًا.
وَلِي فِيهِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْبُسْتَانَ إِذَا كَانَ فِي مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ فَوْقَ الْمَاءِ وَلَا تَرْتَفِعُ إِلَيْهِ أَنْهَارٌ وَتَضْرِبُهُ الرِّيَاحُ كَثِيرًا فَلَا يَحْسُنُ رَيْعُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ انْصَبَّتْ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِثَارَةُ الرِّيَاحِ فَلَا يَحْسُنُ أَيْضًا رَيْعُهُ، فَإِذَنِ الْبُسْتَانُ إِنَّمَا يَحْسُنُ رَيْعُهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ رَبْوَةً وَلَا وَهْدَةً، فَإِذَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرَّبْوَةِ مَا ذَكَرُوهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ الْأَرْضِ طِينًا حُرًّا، بِحَيْثُ إِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ عَلَيْهِ انْتَفَخَ وَرَبَا وَنَمَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها، وَتَكْمُلُ الْأَشْجَارُ فِيهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مُتَأَكَّدٌ بِدَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: ٥] وَالْمُرَادُ مِنْ رَبْوِهَا مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هاهنا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْمَثَلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّفْوَانَ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ، وَلَا يَرْبُو، وَلَا يَنْمُو بِسَبَبِ نُزُولِ الْمَطَرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute