الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ عَلَى اخْتِصَارِهِ، يُفِيدُ الْوَعْدَ الْعَظِيمَ لِلْمُطِيعِينَ، وَالْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِلْمُتَمَرِّدِينَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا فِي قَلْبِ الْمُتَصَدِّقِ مِنْ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَوْ مِنْ نِيَّةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ عِلْمَهُ بِكَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْمُتَصَدِّقِ يُوجِبُ قَبُولَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٧] وَقَوْلُهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى تِلْكَ الدَّوَاعِي وَالنِّيَّاتِ فَلَا يُهْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُهَا، لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَخِيرِ، كَقَوْلِهِ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِتَابَةَ عَادَتْ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لِأَنَّهَا اسْمٌ كَقَوْلِهِ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَةِ:
٢٣١] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّذْرُ مَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ يُقَالُ: نَذَرَ يَنْذُرُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهِ خَوْفَ التَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ عِنْدَهُ، وَأَنْذَرْتُ الْقَوْمَ إِنْذَارًا بِالتَّخْوِيفِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُفَسَّرٍ وَغَيْرِ مُفَسَّرٍ، فَالْمُفَسَّرُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجٌّ، فَهَهُنَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَجْزِيهِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْمُفَسَّرِ أَنْ يَقُولَ: نَذَرْتُ لِلَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا ثُمَّ يَفْعَلُهُ، أَوْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ مَا سَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلظَّالِمِينَ، وَهُوَ قِسْمَانِ، أَمَّا ظُلْمُهُ نَفْسَهُ فَذَاكَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا ظُلْمُهُ غَيْرَهُ فَبِأَنْ لَا يُنْفِقَ أَوْ يَصْرِفَ الْإِنْفَاقَ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونَ نِيَّتُهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، أَوْ يُفْسِدَهَا بِالْمَعَاصِي، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ لَيْسَا مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى الْغَيْرِ، بَلْ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ نَاصِرَ الْإِنْسَانِ مَنْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُ فَلَوِ انْدَفَعَتِ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ بِشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ لَكَانَ أُولَئِكَ أَنْصَارًا لَهُمْ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُرْفَ لَا يُسَمِّي الشَّفِيعَ نَاصِرًا، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤٨] فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالنَّاصِرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَنْصَارِ نَفْيُ الشُّفَعَاءِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: لَيْسَ لِمَجْمُوعِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ لَيْسَ لِبَعْضِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الظَّالِمِينَ وَلَفْظُ الْأَنْصَارِ جَمْعٍ، وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ تَوَزَّعَ الْفَرْدُ عَلَى الْفَرْدِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.