أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، فَيَقَعُ الْفَقِيرُ فِي الْمَذَمَّةِ وَالنَّاسُ فِي الْغَيْبَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْإِعْطَاءِ إِذْلَالًا لِلْآخِذِ وَإِهَانَةً لَهُ وَإِزْلَالُ الْمُؤْمِنِ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الصَّدَقَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْهَدِيَّةِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا»
وَرُبَّمَا لَا يَدْفَعُ الْفَقِيرُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا إِلَى شُرَكَائِهِ الْحَاضِرِينَ فَيَقَعُ الْفَقِيرُ بِسَبَبِ إِظْهَارِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَهَا، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ فِي إِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ، فَيَنْتَفِعُ الْفُقَرَاءُ بِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ، وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِظْهَارُ أَفْضَلَ،
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «السِّرُّ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، وَالْعَلَانِيَةُ أَفْضَلُ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ»
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحِكِيمُ التَّرْمِذِيُّ: الْإِنْسَانُ إِذَا أَتَى بِعَمَلٍ وَهُوَ يُخْفِيهِ عَنِ الْخَلْقِ وَفِي نَفْسِهِ شَهْوَةٌ أَنْ يَرَى الْخَلْقُ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَدْفَعُ تِلْكَ الشَّهْوَةَ فَهَهُنَا الشَّيْطَانُ يُورِدُ عَلَيْهِ ذِكْرَ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ، وَالْقَلْبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُهُ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ فِي مُحَارَبَةِ الشَّيْطَانِ فَضُوعِفَ الْعَمَلُ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَلَى الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا رَاضُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ هِدَايَتِهِ فَتَرَاكَمَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُمْ وَسَاوِسُ النَّفْسِ، لِأَنَّ الشَّهَوَاتِ قَدْ مَاتَتْ مِنْهُمْ وَوَقَعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي بِحَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا عَلَانِيَةً لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُجَاهِدَ، لِأَنَّ شَهْوَةَ النَّفْسِ قَدْ بَطَلَتْ، وَمُنَازَعَةَ النَّفْسِ قَدِ اضْمَحَلَّتْ، فَإِذَا أَعْلَنَ بِهِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَذَا عَبْدٌ كَمُلَتْ ذَاتُهُ فَسَعَى فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِ لِيَكُونَ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ، أَلَا تَرَى أن لله تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ فِي تَنْزِيلِهِ وَسَمَّاهُمْ عِبَادَ الرَّحْمَنِ، وَأَوْجَبَ لَهُمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ/ الْغُرْفَةَ [الْفُرْقَانِ: ٧٥] ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي طَلَبُوهَا بِالدُّعَاءِ أَنْ قَالُوا وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفُرْقَانِ: ٧٤] وَمَدَحَ أُمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٩] وَمَدَحَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] ثُمَّ أَبْهَمَ الْمُنْكَرَ فَقَالَ: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٨١] فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَأَعْلَامُ الدِّينِ وَسَادَةُ الْخَلْقِ بِهِمْ يَهْتَدُونَ فِي الذَّهَابِ إِلَى اللَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ رَجَّحَ الْإِخْفَاءَ عَلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لا نسلم قَوْلَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يُفِيدُ التَّرْجِيحَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ إِعْطَاءَ الصَّدَقَةِ حَالَ الْإِخْفَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَطَاعَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا وَطَاعَةً، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ التَّرْجِيحِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّرْجِيحُ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْحَالُ وَاحِدَةً فِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ، فَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِخْفَاءُ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْإِبْدَاءِ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَبْعُدْ تَرْجِيحُ الْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِخْفَاءِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِظْهَارَ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ أَفْضَلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْأَئِمَّةَ بتوجيه السعادة لِطَلَبِ الزَّكَاةِ، وَفِي دَفْعِهَا إِلَى السُّعَاةِ إِظْهَارُهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي إِظْهَارِهَا نَفْيَ التُّهْمَةِ،
رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ صَلَاتِهِ فِي الْبَيْتِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ فَإِذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَنَفْلِهَا فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ لنفي