مَنْ كَانَ اطِّلَاعُهُ عَلَى آثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَتَدْبِيرِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ أَكْثَرَ، كَانَ اطِّلَاعُهُ عَلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرَ، وَوُقُوفُهُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ أَكْثَرَ، فَمَنْ طَالَعَ تَشْرِيحَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَوَقَفَ فِيهِ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي تَخْلِيقِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ حَصَلَ فِي عَقْلِهِ عَشَرَةُ آلَافِ نَوْعٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ صَارَ ذَلِكَ مُنَبِّهًا لِلْعَقْلِ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي تَخْلِيقِ هَذَا البدن أكثر مما عرفه، وذلك لَمَّا عَرَفَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الدِّمَاغِيَّةَ مِنَ الْعَصَبِ سَبْعَةٌ، عَرَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَائِدَةً وَحِكْمَةً، ثُمَّ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ عَرَفَ بِالْجِبِلَّةِ الشَّدِيدَةِ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَقْلَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ يَنْقَسِمُ إِلَى شَظَايَا دَقِيقَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الشَّظَايَا تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ أُخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ يَتَّصِلُ بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ اتِّصَالًا مُعَيَّنًا. وَيَكُونُ وُصُولُ ذَلِكَ الْقِسْمِ إِلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ فِي مَمَرٍّ مُعَيَّنٍ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَثُرَتْ وَدَقَّتْ خَرَجَتْ عَنْ ضَبْطِ الْعَقْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ آلَافٍ تُنَبِّهُ الْعَقْلَ عَلَى أَنَّ أَقْسَامَ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ هَذَا الْبَدَنِ خَارِجٌ عَنِ التَّعْدِيدِ وَالتَّحْدِيدِ وَالْإِحْصَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤، النحل: ١٨] فَكُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَعْرِفَةِ اسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَذَكَرَ جَالِينُوسُ فِي «كِتَابِ مَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ» أَنَّهُ لَمَّا صَنَّفَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَمْ يَكْتُبْ فِيهِ مَنَافِعَ مَجْمَعِ النُّورِ، قَالَ: وَإِنَّمَا تَرَكْتُ كِتَابَتَهَا ضِنَّةً بِهَا لِشَرَفِهَا، فَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ/ اللَّيَالِي كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ:
جَالِينُوسُ، إِنَّ إِلَهَكَ يَقُولُ: لِمَ أَخْفَيْتَ حِكْمَتِي عَنْ عِبَادِي قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ صَنَّفْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كِتَابًا مُفْرَدًا، وَبَالَغْتُ فِي شَرْحِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَاءِ الله الحسنى.
حكم الأذكار التي في الرقى:
المسألة الرابعة: [حكم الأذكار التي في الرقى] أَنَّا نَرَى فِي «كُتُبِ الطِّلَسْمَاتِ وَالْعَزَائِمِ» أَذْكَارًا غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَرُقًى غَيْرَ مَفْهُومَةٍ وَكَمَا أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَقَدْ تَكُونُ الْكِتَابَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْكِتَابَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَلْفَاظِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَلْفَاظَ دَالَّةٌ عَلَى الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ فَتِلْكَ الرُّقَى إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَائِدَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى شَيْءٍ فَدَلَالَتُهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ وَنُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى شَيْءٍ آخَرَ:
أَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ، لِأَنَّ ذِكْرَ غَيْرِ اللَّهِ لَا يُفِيدُ لَا التَّرْغِيبَ وَلَا التَّرْهِيبَ، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَنَقُولُ: وَلَمَّا كَانَتْ أَقْسَامُ ذِكْرِ اللَّهِ مَضْبُوطَةً وَلَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ فَقَلِيلُ الْأَثَرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَذْكَارُ الْمَعْلُومَةُ أَدْخَلَ فِي التَّأْثِيرِ مِنْ قِرَاءَةِ تِلْكَ الْمَجْهُولَاتِ، لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ نُفُوسَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ نَاقِصَةٌ قَاصِرَةٌ، فَإِذَا قَرَءُوا هَذِهِ الْأَذْكَارَ الْمَعْلُومَةَ وَفَهِمُوا ظَوَاهِرَهَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ نُفُوسٌ قَوِيَّةٌ مُشْرِقَةٌ إِلَهِيَّةٌ لَمْ يَقْوَ تَأَثُّرُهُمْ عَنِ الْإِلَهِيَّاتِ وَلَمْ تَتَجَرَّدْ نُفُوسُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَلَا تَحْصُلُ لِنُفُوسِهِمْ قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى التَّأْثِيرِ، أَمَّا إِذَا قَرَءُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظَ الْمَجْهُولَةَ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا وَحَصَلَتْ عِنْدَهُمْ أَوْهَامٌ أَنَّهَا كَلِمَاتٌ عَالِيَةٌ اسْتَوْلَى الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ وَالرُّعْبُ عَلَى نُفُوسِهِمْ فَحَصَلَ لَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ نَوْعٌ مِنَ التَّجَرُّدِ عَنْ عَالَمِ الْجِسْمِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute