للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنْ تَقْصِيرِهِمْ فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ وَالثَّانِي:

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»

فَذَكَرُوا لِهَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَاتٍ مَنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي التَّرَقِّي فِي دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ كُلَّمَا تَرَقَّى مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ رَأَى الْأَوَّلَ حَقِيرًا، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ، فَحَمْلُ طَلَبِ الْغُفْرَانِ فِي الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَالثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَ الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جِنَايَاتٌ، وَكُلُّ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ أَنْوَارِ كِبْرِيَائِهِ تَقْصِيرٌ وَقُصُورٌ وَجَهْلٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: ٩١] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَبْدُ فِي أَيِّ مَقَامٍ كَانَ مِنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا جِدًّا إِذَا قُوبِلَ ذَلِكَ بِجَلَالِ كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ عَيْنَ التَّقْصِيرِ الَّذِي يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [مُحَمَّدٍ: ١٩] فَإِنَّ مَقَامَاتِ عُبُودِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَالِيَةً إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَنْكَشِفُ لَهُ فِي دَرَجَاتِ مُكَاشَفَاتِهِ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ عَنِ التَّقْصِيرِ، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ حَكَىَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَلَامَهُمْ فَقَالَ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُسَ: ١٠] فَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى التَّنْزِيهِ.

ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠] يَعْنِي أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ الْحَمْدِ بِعُقُولِنَا وَلَا عَلَى ذِكْرِهِ بِأَلْسِنَتِنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ غُفْرانَكَ تَقْدِيرُهُ: اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، وَيُسْتَغْنَى بِالْمَصْدَرِ عَنِ الْفِعْلِ فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ سُقْيًا وَرَعْيًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْأَمْرِ فَنُصِبَ، وَمِثْلُهُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَالْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: نَسْأَلُكَ غُفْرَانَكَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِهَذَا الْمَعْنَى ابْتِدَاءً كَانَتْ أَدَلَّ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكُ: حَمْدًا حَمْدًا، وَشُكْرًا شُكْرًا، أَيْ أَحْمَدُ حَمْدًا، وأشكر شكر.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْغُفْرَانِ مَقْرُونٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ غُفْرانَكَ وَالثَّانِي: أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ رَبَّنا وَهَذَانَ الْقَيْدَانِ يَتَضَمَّنَانِ فَوَائِدَ إِحْدَاهَا: أَنْتَ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَنْتَ غَافِرُ الذَّنْبِ، وَأَنْتَ غَفُورٌ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ [الْكَهْفِ: ٥٨] وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [الْبُرُوجِ: ١٤] وَأَنْتَ/ الْغَفَّارُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نُوحٍ: ١٠] يَعْنِي أنه ليست غفاريته من هذا لوقت، بَلْ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ غَفَّارَ الذُّنُوبِ، فهذه الغفارية كالحرفة له، فقوله هاهنا غُفْرانَكَ يَعْنِي أَطْلُبُ الْغُفْرَانَ مِنْكَ وَأَنْتَ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمَطْمُوعُ مِنَ الْكَامِلِ فِي صِفَةٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً كَامِلَةً، فَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ طَلَبٌ لِغُفْرَانٍ كَامِلٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِأَنْ يَغْفِرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيُبَدِّلَهَا بِالْحَسَنَاتِ، كَمَا قَالَ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٠] وَثَانِيهَا:

رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ جُزْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ قَسَّمَ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الحيوانات، فيها يَتَرَاحَمُونَ، وَادَّخَرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ»

فَأَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ غُفْرانَكَ هُوَ ذَلِكَ الْغُفْرَانُ الْكَبِيرُ، كَانَ الْعَبْدُ يَقُولُ: هَبْ أَنَّ جُرْمِي كَبِيرٌ لَكِنَّ غُفْرَانَكَ أَعْظَمُ مِنْ جُرْمِي وَثَالِثُهَا: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: كُلُّ صِفَةٍ من صفات جلالك وإلهيتك، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَوْلَا الْوُجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ قُدْرَتِكَ، وَلَوْلَا التَّرْتِيبُ الْعَجِيبُ وَالتَّأْلِيفُ الْأَنِيقُ لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ عِلْمِكَ، فَكَذَا لَوْلَا جُرْمُ الْعَبْدِ وَجِنَايَتُهُ، وَعَجْزُهُ وَحَاجَتُهُ، لَمَا ظَهَرَتْ آثَارُ غُفْرَانِكَ، فَقَوْلُهُ غُفْرانَكَ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْغُفْرَانِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ ظُهُورُ أَثَرِهِ إِلَّا فِي حَقِّي، وَفِي حَقِّ أَمْثَالِي مِنَ الْمُجْرِمِينَ.