للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التَّقْصِيرِ، وَالتَّقْصِيرُ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا طَاقَةَ لَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ طَلَبُوا السُّهُولَةَ فِي التَّكَالِيفِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا عَهْدًا وَمِيثَاقًا يُشْبِهُ مِيثَاقَ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنْ بِإِضْمَارِ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْمَلْفُوظِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ شَدَّدَ التَّكْلِيفَ عَلَى الْيَهُودِ حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إِلَى وُقُوعِهِمْ فِي الْمُخَالَفَاتِ وَالتَّمَرُّدِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَصْلَحَةً فِي حَقِّ إِنْسَانٍ، مَفْسَدَةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالْيَهُودُ كَانَتِ الْفَظَاظَةُ وَالْغِلْظَةُ غَالِبَةً عَلَى طِبَاعِهِمْ، فَمَا كَانُوا يَنْصَلِحُونَ إِلَّا بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ كَانَتِ الرِّقَّةُ وَكَرَمُ الْخُلُقِ غَالِبًا عَلَى طِبَاعِهِمْ، فَكَانَتْ مَصْلَحَتُهُمْ فِي التَّخْفِيفِ وَتَرْكِ التَّغْلِيظِ.

أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ نَنْقُلُهُ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي فَنَقُولُ: وَلِمَاذَا خَصَّ الْيَهُودَ بِغِلْظَةِ الطَّبْعِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى التَّشْدِيدَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي التَّكَالِيفِ وَلِمَاذَا خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِلَطَافَةِ الطَّبْعِ وَكَرَمِ الْخُلُقِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ حَتَّى صَارَ يَكْفِيهِمُ التَّكَالِيفُ السَّهْلَةُ فِي حُصُولِ مَصَالِحِهِمْ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ عَلِيلَةٌ فَجَلَّ جَنَابُ الْجَلَالِ عَنْ أَنْ يُوزَنَ بِمِيزَانِ الِاعْتِزَالِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ.

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّاقَةُ اسْمٌ مِنَ الْإِطَاقَةِ، كَالطَّاعَةِ مِنَ الْإِطَاعَةِ، وَالْجَابَةِ مِنَ الْإِجَابَةِ وَهِيَ تُوضَعُ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا حَسُنَ طَلَبُهُ بِالدُّعَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

أَجَابَ الْمُعْتَزِلَةَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ أَيْ يَشُقُّ فِعْلُهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا كَانَ مُسْتَثْقِلًا لَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ ... سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ: «لَهُ طَعَامُهُ وَكُسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ»

أَيْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ،

وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرِيضُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»

فَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ

لَيْسَ مَعْنَاهُ عَدَمَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجُلُوسِ، بَلْ كُلُّ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا كَانَ يَلْحَقُهُ فِي الْجُلُوسِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، / وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْكُفَّارِ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هُودٍ: ٢٠] أَيْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لَا تُكَلِّفْنَا مَا لَا طَاقَةَ لنا به، بل قال: لا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَالتَّحْمِيلُ هُوَ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مَا لَا طَاقَةَ له بِتَحَمُّلِهِ فَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَذَابَ وَالْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا عَذَابَكَ الَّذِي لَا