للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمُلُوكُ الرُّومِ كَانُوا شَرَّفُوهُ وَمَوَّلُوهُ وَأَكْرَمُوهُ لِمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ، فلما قدموا من بحران رَكِبَ أَبُو حَارِثَةَ بَغْلَتَهُ، وَكَانَ إِلَى جَنْبِهِ أَخُوهُ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ، فَبَيْنَا بَغْلَةُ أَبِي حَارِثَةَ تَسِيرُ إِذْ عَثَرَتْ، فَقَالَ كُرْزٌ أَخُوهُ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو حَارِثَةَ: بَلْ تَعِسَتْ أُمُّكَ، فَقَالَ: وَلِمَ يَا أَخِي؟ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ كُرْزٌ: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا، قَالَ: لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكَ أَعْطَوْنَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَأَكْرَمُونَا، فَلَوْ آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَخَذُوا مِنَّا كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلْبِ أَخِيهِ كُرْزٍ، وَكَانَ يُضْمِرُهُ إِلَى أَنْ أَسْلَمَ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ: الْأَمِيرُ، وَالسَّيِّدُ وَالْحَبْرُ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ أَدْيَانِهِمْ، فَتَارَةً يَقُولُونَ عِيسَى هُوَ اللَّهُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَيَحْتَجُّونَ لِقَوْلِهِمْ: هُوَ اللَّهُ، بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُبْرِئُ الْأَسْقَامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَطِيرُ، وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ وَلَدُ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ثَالِثِ ثَلَاثَةٍ بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى: فَعَلْنَا وَجَعَلْنَا، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَقَالَ فَعَلْتُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلِمُوا، فَقَالُوا: قَدْ أَسْلَمْنَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ كَذَبْتُمْ كَيْفَ يَصِحُّ إِسْلَامُكُمْ وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَتَعْبُدُونَ الصَّلِيبَ، وَتَأْكُلُونَ الْخِنْزِيرَ، قَالُوا: فَمَنْ أَبُوهُ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا.

ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاظِرُ مَعَهُمْ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَيُشْبِهُ أَبَاهُ؟ قَالُوا بَلَى، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ، فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا عَلِمَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ، فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ وَلَا يُحْدِثُ الْحَدَثَ وَتَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ امْرَأَةٌ كَحَمْلِ الْمَرْأَةِ وَوَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ، وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ قَالُوا: بَلَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَكَيْفَ يَكُونُ كَمَا زَعَمْتُمْ؟ فَعَرَفُوا ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا، ثُمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزَعُمُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قَالَ: بَلَى» ، قَالُوا: فَحَسْبُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ [آل عمران: ٧] الْآيَةَ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُلَاعَنَتِهِمْ إِذْ رَدُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْمُلَاعَنَةِ، فَقَالُوا:

يَا أَبَا الْقَاسِمِ دَعْنَا نَنْظُرْ فِي أَمْرِنَا، ثُمَّ نَأْتِيكَ بِمَا تُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ، فَانْصَرَفُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ لِبَعْضٍ: مَا تَرَى؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَفَّى كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ، وَإِنَّهُ الِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا دِينَكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ رَأَيْنَا أَنْ لَا نُلَاعِنَكَ وَأَنْ نَتْرُكَكَ عَلَى دِينِكَ، وَنَرْجِعَ نَحْنُ عَلَى دِينِنَا، فَابْعَثْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مَعَنَا يَحْكُمُ بَيْنَنَا فِي أَشْيَاءَ قَدِ اخْتَلَفْنَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِنَا، فَإِنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًا، فقال عليه السلام: آتوني الْعَشِيَّةَ أَبْعَثْ مَعَكُمُ الْحَكَمَ الْقَوِيَّ الْأَمِينَ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ صَاحِبَهَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ سَلَّمَ ثُمَّ نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلُ لَهُ لِيَرَانِي، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُ بَصَرَهُ حَتَّى