وَأَمَّا الْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ غَيْرُ رَاجِحَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْجُوحٍ، وَالْمُؤَوَّلُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاجِحٍ فَهُوَ مَرْجُوحٌ لَا بِحَسَبَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَرِدِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ الْمُسَمَّى المتشابه، لِأَنَّ عَدَمَ الْفَهْمِ حَاصِلٌ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُتَشَابِهًا إِمَّا لِأَنَّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ يَكُونُ النَّفْيُ فِيهِ مُشَابِهًا لِلْإِثْبَاتِ فِي الذِّهْنِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّشَابُهُ يَصِيرُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَأُطْلِقَ لَفْظُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُحَصَّلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْهُومَيْنِ على السوية، فههنا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ، مِثْلَ: الْقُرْءِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، إِنَّمَا الْمُشْكِلُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ رَاجِحًا فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَمَرْجُوحًا فِي الْآخَرِ، ثُمَّ كَانَ الرَّاجِحُ بَاطِلًا، وَالْمَرْجُوحُ حَقًّا، وَمِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
[الْإِسْرَاءِ: ١٦] فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَفْسُقُوا، وَمُحْكَمُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ/ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَافِ: ٢٨] رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَافِ: ٢٨] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٦٧] وَظَاهِرُ النِّسْيَانِ مَا يَكُونُ ضِدًّا لِلْعِلْمِ، وَمَرْجُوحُهُ التَّرْكُ وَالْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٤] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: ٥٢] .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ يَدَّعِي أَنَّ الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ مَحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِقَوْلِ خَصْمِهِ مُتَشَابِهَةٌ، فَالْمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ قَوْلُهُ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] مُحْكَمٌ، وقوله وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التَّكْوِيرِ: ٢٩] مُتَشَابِهٌ وَالسُّنِّيُّ يَقْلِبُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ قَانُونٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ: اللَّفْظُ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا رَاجِحًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ مَرْجُوحًا، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الرَّاجِحِ وَلَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا هُوَ الْمُحْكَمُ وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَلَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى الرَّاجِحِ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ فَنَقُولُ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا حَصَلَ بَيْنَ ذَيْنِكَ الدَّلِيلَيْنِ اللَّفْظِيَّيْنِ تَعَارُضٌ وَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ تَرْكُ ظَاهِرِ أَحَدِهِمَا رِعَايَةً لِظَاهِرِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدَهُمَا قَاطِعٌ فِي دَلَالَتِهِ وَالْآخِرَ غَيْرُ قَاطِعٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ، أَوْ يُقَالُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَرْجَحَ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ:
أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تَكُونُ قَاطِعَةً الْبَتَّةَ، لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ لَفْظِيٍّ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ، وَنَقْلِ وُجُوهِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمَوْقُوفٌ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ، وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ النَّقْلِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ مَظْنُونٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَظْنُونِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا، فَثَبَتَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يَكُونُ قَاطِعًا.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الِاحْتِمَالِ قَائِمًا فِيهِمَا مَعًا، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ صَرْفُ الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ ظَنِّيًّا، وَمِثْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute