للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الَّذِي يَكُونُ دَلَالَةَ لَفْظِهِ عَلَى مَعْنَاهُ مُتَعَيِّنَةً رَاجِحَةً، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهُوَ إِمَّا الْمُجْمَلُ الْمُتَسَاوِي، أَوِ الْمُؤَوَّلُ الْمَرْجُوحُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ صِحَّةُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَيَصِيرُ الْمُحْكَمُ عَلَى قَوْلِهِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَعَلَى هَذَا يَصِيرُ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أَمْرٌ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الطَّبِيعَةِ يَقُولُونَ: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الطَّبَائِعُ وَالْفُصُولُ، أَوْ تَأْثِيرَاتُ الْكَوَاكِبِ، وَتَرْكِيبَاتُ الْعَنَاصِرِ وَامْتِزَاجَاتُهَا، فَكَمَا أَنَّ إِثْبَاتَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ إِسْنَادُ هَذِهِ الْحَوَادِثِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُفْتَقِرٌ إِلَى الدَّلِيلِ، وَلَعَلَّ الْأَصَمَّ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُفْتَقِرَةً إِلَى الدَّلِيلِ، إِلَّا أَنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ فِيهِ ظَاهِرًا بِحَيْثُ تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ قَلِيلَةً مَرَتَّبَةً مُبَيَّنَةً يُؤْمَنُ الْغَلَطُ مَعَهَا إِلَّا نَادِرًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ فِيهِ خَفِيًّا كَثِيرَ الْمُقَدِّمَاتِ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمُحْكَمُ وَالثَّانِي: هُوَ الْمُتَشَابِهُ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ جَلِيٍّ، أَوْ بِدَلِيلٍ خَفِيٍّ، فَذَاكَ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَكُلُّ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَذَاكَ هُوَ الْمُتَشَابِهُ، وَذَلِكَ كَالْعِلْمِ بِوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالْعِلْمِ بِمَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الأعراف: ١٨٧] [النازعات: ٤٢] .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْفَوَائِدِ الَّتِي لِأَجْلِهَا جُعِلَ بَعْضُ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا وَبَعْضُهُ مُتَشَابِهًا.

اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَالْجَبْرِيُّ يَتَمَسَّكُ بِآيَاتِ الْجَبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الْأَنْعَامِ:

٢٥] وَالْقَدَرِيُّ يَقُولُ: بَلْ هَذَا مَذْهَبُ الْكُفَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: ٥] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَةِ: ٨٨] وَأَيْضًا مُثْبِتُ الرُّؤْيَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣] وَالنَّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: ١٠٣] وَمُثْبِتُ الْجِهَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: ٥٠] وَبِقَوْلِهِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] وَالنَّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُسَمِّي الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ: مُحْكَمَةً، وَالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةَ لِمَذْهَبِهِ:

مُتَشَابِهَةً وَرُبَّمَا آلَ الْأَمْرُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إِلَى تَرْجِيحَاتٍ خَفِيَّةٍ، وَوُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَجْعَلَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الدِّينِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ هَكَذَا، أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ ظَاهِرًا جَلِيًّا نَقِيًّا عَنْ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حُصُولِ الْغَرَضِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا في فوائد المتشابهات وجوهاً:

لوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الْمُتَشَابِهَاتُ مَوْجُودَةً، كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ أَصْعَبَ وَأَشَقَّ وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] .