مُحْكَمًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ مُتَأَكَّدٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا إِلَى ذَلِكَ الْمُحْكَمِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: أُمُّ الْكِتابِ وَلَمْ يَقُلْ: أُمَّهَاتُ الْكِتَابِ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُحْكَمَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمَجْمُوعَ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ وَأَحَدُهُمَا أُمُّ الْآخَرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
ثُمَّ قَالَ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وَقَدْ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الْمُتَشَابِهَاتِ، قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: إِنَّ أُخَرُ فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك أن أُخَرَ جَمْعُ أُخْرَى وَأُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ وَآخَرُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَعَ مِنْ أَوْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيُقَالُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، وَزَيْدٌ الْأَفْضَلُ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَقِّبَتَانِ لِمِنْ فِي بَابِ أَفْعَلَ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ آخَرُ مِنْ عَمْرٍو، أَوْ يُقَالُ: زَيْدٌ الْآخَرُ إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا مِنْهُ لَفْظَ مِنْ لِأَنَّ لَفْظَهُ اقْتَضَى مَعْنَى مِنْ فَأَسْقَطُوهَا اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَاقِبَتَانِ لِمِنْ، فَسَقَطَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَيْضًا فَلَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ صَارَ أُخَرَ فَأُخَرُ جَمْعُهُ، فَصَارَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعْدُولَةً عَنْ حُكْمِ نَظَائِرِهَا فِي سُقُوطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَنْ جَمْعِهَا وَوُحْدَانِهَا.
ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ، بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ لَا يَتَمَسَّكُونَ إِلَّا بِالْمُتَشَابِهِ، وَالزَّيْغُ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، يُقَالُ: زَاغَ زَيْغًا: أَيْ مَالَ مَيْلًا وَاخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرِيدُوا بِقَوْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَقَالَ الرَّبِيعُ: هُمْ وَفْدُ نَجْرَانَ لَمَّا حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسِيحِ فَقَالُوا: أَلَيْسَ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ قَالَ: بَلَى. فَقَالُوا: حَسْبُنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ،
ثُمَّ أَنْزَلَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الْيَهُودُ طَلَبُوا عِلْمَ مُدَّةِ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ: هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَما يَعْلَمُ/ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا وَقْتَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَاهُ عَنْ كُلِّ الْخَلْقِ حَتَّى عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ هَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُبْطِلِينَ، وَكُلَّ مَنِ احْتَجَّ لِبَاطِلِهِ بِالْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ اللَّفْظِ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا فِيهِ لَبْسٌ وَاشْتِبَاهٌ وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ مِنَ النُّصْرَةِ وَمَا أَوْعَدَ الْكُفَّارَ مِنَ النِّقْمَةِ ويقولون ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: ٢٩] لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ:
٣] لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الْحِجْرِ: ٧] فَمَوَّهُوا الْأَمْرَ عَلَى الضَّعَفَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ اسْتِدْلَالُ الْمُشَبِّهَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَيِّزِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ فَيَكُونُ مُنْقَسِمًا مُرَكَّبًا وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، فَبِهَذَا الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ فِي مَكَانٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى مُتَشَابِهًا، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْمُتَشَابِهَاتِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالظَّوَاهِرِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفْوِيضِ الْفِعْلِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي، وَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الدَّاعِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وثبت مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُ الْفِعْلِ عند تلك