حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَشَابِهًا بِمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ اشْتَبَهَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّ الظَّنَّ الرَّاجِحَ حَاصِلٌ فِي إِجْرَائِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الزَّائِغِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ، بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ غَرَضَيْنِ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِهْتَارُ بِالشَّيْءِ وَالْغُلُوُّ فِيهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَفْتُونٌ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، أَيْ قَدْ غَلَا فِي طَلَبِهَا وَتَجَاوَزَ الْقَدْرَ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُمْ مَتَى أَوْقَعُوا تِلْكَ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الدِّينِ، صَارَ بَعْضُهُمْ مُخَالِفًا لِلْبَعْضِ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّقَاتُلِ وَالْهَرْجِ وَالْمَرْجِ فَذَاكَ هُوَ الْفِتْنَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّمَسُّكَ بِذَلِكَ الْمُتَشَابِهِ يُقَرِّرُ الْبِدْعَةَ وَالْبَاطِلَ فِي قَلْبِهِ فَيَصِيرُ مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقطع عَنْهُ بِحِيلَةٍ الْبَتَّةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ هُوَ الضَّلَالُ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فِتْنَةَ وَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَالْفَسَادِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْغَرَضُ الثَّانِي لَهُمْ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ التَّفْسِيرُ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، مِنْ قَوْلِكَ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا إِذَا صَارَ إِلَيْهِ، وَأَوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا إِذَا صَيَّرْتَهُ إِلَيْهِ، هَذَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ يُسَمَّى التَّفْسِيرُ تَأْوِيلًا، قَالَ تَعَالَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْفِ:
٧٨] وَقَالَ تَعَالَى: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النِّسَاءِ: ٥٩] وَذَلِكَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعْنَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَلَا بَيَانٌ، مِثْلُ طَلَبِهِمْ أَنَّ السَّاعَةَ مَتَى تَقُومُ؟
وَأَنَّ مَقَادِيرَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِكُلِّ مُطِيعٍ وَعَاصٍ كَمْ تَكُونُ؟ قَالَ الْقَاضِي: هَؤُلَاءِ الزَّائِغُونَ قَدِ ابْتَغَوُا الْمُتَشَابِهَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْمِلُوهُ على غير الحق: وهـ والمراد مِنْ قَوْلِهِ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَحْكُمُوا بِحُكْمٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا دَلِيلَ فِيهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَكُونُ زِيَادَةً فِي ذَمِّ طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الزَّائِغِينَ فَقَالَ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا، ثُمَّ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَاوُ الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: لَا يَعْلَمُ الْمُتَشَابِهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْعِلْمُ بِالْمُتَشَابِهِ حَاصِلًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ لَهُ مَعْنًى رَاجِحٌ، ثُمَّ دَلَّ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ، عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُ مَجَازَاتِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْمَجَازَاتِ كَثْرَةٌ، وَتَرْجِيحُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّرْجِيحَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، وَالتَّرْجِيحَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةً يَقِينِيَّةً، كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ الضَّعِيفَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، مِثَالُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] ثم قال الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّكْلِيفِ قَدْ وُجِدَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْبَرَاهِينِ الْخَمْسَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى بَعْضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute