للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُمْ قَانِتِينَ، وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٨] وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ مُنْفِقِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِ إِنْفَاقُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَصِلَةِ رَحِمِهِ وَفِي الزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ.

الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: كَوْنُهُمْ مُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ، وَالسَّحَرُ الْوَقْتُ الَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَتَسَحَّرَ إِذَا أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثُمَّ يُتْبِعُهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ صَلَّوْا بِاللَّيْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِالسَّحَرِ لَهُ مَزِيدُ أَثَرٍ فِي قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَفِي كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي وَقْتِ السَّحَرِ يَطْلُعُ نُورُ الصُّبْحِ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ شَامِلَةً لِلْكُلِّ، وَبِسَبَبِ طُلُوعِ نُورِ الصُّبْحِ كَأَنَّ الْأَمْوَاتَ يَصِيرُونَ أَحْيَاءً، فَهُنَاكَ وَقْتُ الْجُودِ الْعَامِّ وَالْفَيْضِ التَّامِّ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ طُلُوعِ صُبْحِ الْعَالِمِ الْكَبِيرِ يَطْلُعُ صُبْحُ العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الصَّغِيرِ، وَهُوَ ظُهُورُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ وَالثَّانِي: أَنَّ وَقْتَ السَّحَرِ أَطْيَبُ أَوْقَاتِ النَّوْمِ، فَإِذَا أَعْرَضَ الْعَبْدُ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ، كَانَتِ الطَّاعَةُ أَكْمَلَ وَالثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يُرِيدُ الْمُصَلِّينَ صَلَاةَ الصُّبْحِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَصْبِرُونَ وَيَصْدُقُونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ الصَّابِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عَادَتُهُمْ وَخُلُقُهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْوَاعًا مِنَ التَّكْلِيفِ، وَالصَّابِرُ هُوَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى أَدَاءِ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَلْتَزِمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أَنْوَاعًا أُخَرَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَإِمَّا بِسَبَبِ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنَّهُ إِذَا الْتَزَمَ طَاعَةً أَنْ يُصَدِّقَ نَفْسَهُ فِي الْتِزَامِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ لِلْمُلْتَزِمِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ الْبَتَّةَ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْأُولَى، لَا جَرَمَ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الصَّابِرِينَ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ: الصَّادِقِينَ ثَانِيًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَدَبَ إِلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الطَّاعَةِ، فَقَالَ: وَالْقانِتِينَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ الطَّاعَاتِ الْمُعَيَّنَةَ، وَكَانَ أَعْظَمَ الطَّاعَاتِ قَدْرًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْخِدْمَةُ بِالْمَالِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله»

فذكر هُنَا بِقَوْلِهِ وَالْمُنْفِقِينَ وَالثَّانِيَةُ: الْخِدْمَةُ بِالنَّفْسِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ

بِقَوْلِهِ «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ»

فَذَكَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» .

فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَدَّمَ هَاهُنَا ذِكْرَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْتَغْفِرِينَ، وَأَخَّرَ فِي

قَوْلِهِ «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ» .

قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي شَرْحِ عُرُوجِ الْعَبْدِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَشْرَفِ، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الْخَتْمُ بِذِكْرِ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ،

وَقَوْلِهِ «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ»

فِي شَرْحِ نُزُولِ الْعَبْدِ مِنَ الْأَشْرَفِ إِلَى الْأَدْنَى، فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّرْتِيبُ بِالْعَكْسِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْخَمْسَةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْدِيدِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ حَذْفَ وَاوِ