لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِي ... بِأَجَلِّ أَسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقٍ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ مَحْمُولٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُلْكِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مُلْكُ النُّبُوَّةِ، وَمُلْكُ الْعِلْمِ، وَمُلْكُ الْعَقْلِ، وَالصِّحَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَمُلْكُ النَّفَاذِ وَالْقُدْرَةِ وَمُلْكُ الْمَحَبَّةِ، وَمُلْكُ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَالتَّخْصِيصُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِزَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الدِّينِ فَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعِزَّةِ الْإِيمَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقُونَ: ٨] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِزَّةِ هُوَ الْإِيمَانَ، وَأَذَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَذَلَّةِ هُوَ الْكُفْرَ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ، لَكَانَ إِعْزَازُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِالْإِيمَانِ وَإِذْلَالُهُ نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ أَعْظَمَ مِنْ إِعْزَازِ اللَّهِ عَبْدَهُ بِكُلِّ مَا أَعَزَّهُ بِهِ، وَمِنْ إِذْلَالِ اللَّهِ عَبْدَهُ بِكُلِّ مَا أَذَلَّهُ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ حَظُّ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ حَظِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْإِعْزَازَ بِالْإِيمَانِ وَالْحَقِّ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَالْإِذْلَالَ بِالْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ الْقَاضِي: الْإِعْزَازُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا أَمَّا الَّذِي فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنَّ الثَّوَابَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى يَمُدُّهُمْ بِمَزِيدِ الْأَلْطَافِ وَيُعْلِيهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فَبِإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ مِنَ النَّاطِقِ وَالصَّامِتِ وَتَكْثِيرِ الْحَرْثِ وَتَكْثِيرِ النِّتَاجِ فِي الدَّوَابِّ، وَإِلْقَاءِ الْهَيْبَةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَنَا يَأْبَى ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّعْظِيمِ فِي بَابِ الثَّوَابِ فَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ لم يفعله لا نعزل عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ إِلَهًا لِلْخَلْقِ فَهُوَ تَعَالَى بِإِعْطَاءِ هَذِهِ التَّعْظِيمَاتِ يَحْفَظُ إِلَهِيَّةَ نَفْسِهِ عَنِ الزَّوَالِ فَأَمَّا الْعَبْدُ، فَلَمَّا خَصَّ نَفْسَهُ بِالْإِيمَانِ الَّذِي يُوجِبُ هَذِهِ التَّعْظِيمَاتِ فَهُوَ الَّذِي أَعَزَّ نَفْسَهُ فَكَانَ إِعْزَازُهُ لِنَفْسِهِ أَعْظَمَ مِنْ إِعْزَازِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ لَازِمٌ عَلَى الْقَوْمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُذِلُّ أَعْدَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا يُذِلُّ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَإِنْ أَفْقَرَهُمْ وَأَمْرَضَهُمْ وَأَحْوَجَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِيُعِزَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، إِمَّا بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا بِالْعِوَضِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا يُؤْلِمَانِ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا يَسْتَعْقِبَانِ نَفْعًا عَظِيمًا لَا جَرَمَ لَا يُقَالُ فِيهِمَا: إِنَّهُمَا تَعْذِيبٌ، / قَالَ وَإِذَا وُصِفَ الْفَقْرُ بِأَنَّهُ ذُلٌّ فَعَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى لِينَ الْمُؤْمِنِينَ ذُلًّا بِقَوْلِهِ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
[الْمَائِدَةِ: ٥٤] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذْلَالُ اللَّهِ تَعَالَى عَبْدَهُ الْمُبْطِلَ إِنَّمَا يَكُونُ بِوُجُوهٍ مِنْهَا بِالذَّمِّ وَاللَّعْنِ وَمِنْهَا بِأَنْ يَخْذُلَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْهَا بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ خَوَلًا لِأَهْلِ دِينِهِ، وَيَجْعَلَ مَالَهُمْ غَنِيمَةً لَهُمْ وَمِنْهَا بِالْعُقُوبَةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ تَعَالَى يُعِزُّ الْبَعْضَ بِالْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَيُذِلُّ الْبَعْضَ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ هُوَ هَذَا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ عِزَّ الْإِسْلَامِ وَذُلَّ الْكُفْرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَاعِلٍ وَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute