للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ إلى قوم الْمُسْلِمِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ/ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ، وَاحْذَرُوا أَنْ يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَغَيْرِهِ، وَكَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِالْأَخْبَارِ وَيَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الظَّفَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ لَهُ حُلَفَاءُ مِنَ الْيَهُودِ، فَفِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ مَعِيَ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ.

قُلْنَا: مَعْنَى الْآيَةِ فَلَيْسَ مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فِي تَحْرِيمِ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ آيَاتٍ كَثِيرَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٨] وَقَوْلُهُ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] وَقَوْلُهُ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ وقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الْمُمْتَحِنَةِ: ١] وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: ٧١] .

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمُؤْمِنِ مُوَالِيًا لِلْكَافِرِ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِكُفْرِهِ وَيَتَوَلَّاهُ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُصَوِّبًا لَهُ فِي ذَلِكَ الدِّينِ، وَتَصْوِيبُ الْكُفْرِ كُفْرٌ وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَبْقَى مُؤْمِنًا مَعَ كَوْنِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا فِي شَيْءٍ يبقى المؤمن معه مؤمناو ثانيها: الْمُعَاشَرَةُ الْجَمِيلَةُ فِي الدُّنْيَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُوَ أَنَّ مُوَالَاةَ الْكُفَّارِ بِمَعْنَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَالْمَعُونَةِ، وَالْمُظَاهَرَةِ، وَالنُّصْرَةِ إِمَّا بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، أَوْ بِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ دِينَهُ بَاطِلٌ فَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ إِلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَجُرُّهُ إِلَى اسْتِحْسَانِ طَرِيقَتِهِ وَالرِّضَا بِدِينِهِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَا جَرَمَ هَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ بِمَعْنَى أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا إِذَا تَوَلَّوْهُمْ وَتَوَلَّوُا الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ فَذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ فِيهِ زِيَادَةُ مَزِيَّةٍ، لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُوَالِي غَيْرَهُ وَلَا يَتَّخِذُهُ مُوَالِيًا فَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِهِ مُوَالِيًا لَا يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ أَصْلِ مولاته.

قُلْنَا: هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ وَإِنْ قَامَا فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ دَلَّتْ عَلَى سُقُوطِ هَذَيْنِ الاحتمالين.