الْمَحْمُودَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ،
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِي حَائِطٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بَخٍ بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ» فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَّمَهَا فِي أَقَارِبِهِ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ جَعَلَهَا بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُحِبُّهُ وَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ، فَوَجَدَ زَيْدٌ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَهَا
وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ جَارِيَةً أَعْجَبَتْهُ فَأَعْتَقَهَا فَقِيلَ لَهُ: لِمَ أَعْتَقْتَهَا وَلَمْ تُصِبْ مِنْهَا؟ فَقَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْبِرِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: مَا بِهِ يَصِيرُونَ أَبْرَارًا حَتَّى يَدْخُلُوا فِي قوله إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ وَالثَّانِي: الثَّوَابُ وَالْجَنَّةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَنْ تَنَالُوا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبِرَّ هُوَ التَّقْوَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: إِنَّ الْبِرَّ هُوَ الْخَيْرُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: الْبِرُّ هُوَ الْجَنَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أَيْ لَنْ تَنَالُوا ثَوَابَ الْبِرِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
الْمُرَادُ بِرُّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَهُ وَإِكْرَامُهُ إِيَّاهُمْ وَتَفَضُّلُهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ: بَرَّنِي فُلَانٌ بِكَذَا، وَبِرُّ فُلَانٍ لَا يَنْقَطِعُ عَنِّي، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إِلَى قول: أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٨] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ مِمَّا تُحِبُّونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَفْسُ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [الْعَادِيَّاتِ: ٨] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ رَفِيعَةً جَيِّدَةً، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٧] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى / حُبِّهِ مِسْكِيناً [الْإِنْسَانِ: ٨] أَحَدُ تَفَاسِيرِ الْحُبِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَقَالَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْرِ: ٩]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ»
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي بَابِ الْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْإِنْفَاقَ، هَلْ هُوَ الزَّكَاةُ أَوْ غَيْرُهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِهِ الزَّكَاةَ، يَعْنِي حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَهُ الْمُسْلِمُ مِنْ مَالِهِ طَلَبَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ حَتَّى التَّمْرَةَ، وَالْقَاضِي اخْتَارَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا الْإِنْفَاقَ، وَقَفَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَبْرَارِ، وَالْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْإِنْفَاقُ، لَمْ يَصِرِ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ، وَأَقُولُ: لَوْ خَصَّصْنَا الْآيَةَ بِغَيْرِ الزَّكَاةِ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِإِيتَاءِ الْأَحَبِّ، وَالزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ لَيْسَ فِيهَا إِيتَاءُ الْأَحَبِّ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ أَشْرَفَ أَمْوَالِهِ وَأَكْرَمَهَا، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِإِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الندب.