للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

احْتَاجَ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبُرِّ خَاصَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ لَفْظِ الطَّعَامِ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُفَسِّرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ شَيْئًا سِوَى الْحِنْطَةِ، وَسِوَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَاءِ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: ٢٤٩] وَقَالَ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [الْمَائِدَةِ: ٥] وَأَرَادَ الذَّبَائِحَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ، وَالْمُرَادُ التَّمْرُ وَالْمَاءُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَطْعُومَاتِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ:

لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ كَانَتِ الْمَيْتَةُ مُبَاحَةً لَهُمْ مَعَ أَنَّهَا طَعَامٌ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ قَالَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كَانَ يَدَّعِي الْيَهُودُ فِي وَقْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ الطَّعَامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ لِلْعَهْدِ السَّابِقِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَشْيَاءَ سَأَلُوا عَنْهَا فَعَرَفُوا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا دُونَ غَيْرِهِ فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِلُّ مَصْدَرٌ يُقَالُ: حَلَّ الشَّيْءُ حِلًّا كَقَوْلِكَ: ذَلَّتِ الدَّابَّةُ ذِلًّا وَعَزَّ الرَّجُلُ عِزًّا، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ قَالَ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ [الممتحنة: ١٠] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الْحِلُّ وَالْمُحَلَّلُ وَاحِدٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي زَمْزَمَ هِيَ حِلٌّ وَبِلٌّ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَسُئِلَ سُفْيَانُ: مَا حِلٌّ؟ فَقَالَ مُحَلَّلٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:

رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الْإِبِلَ وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا» وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ

وَالثَّانِي: قِيلَ إِنَّهُ كان به عرق النساء، فَنَذَرَ إِنْ شَفَاهُ/ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ شَيْئًا مِنَ الْعُرُوقِ الثَّالِثُ: جَاءَ

فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ زَوَائِدُ الْكَبِدِ وَالشَّحْمُ إِلَّا مَا عَلَى الظَّهْرِ،

وَنَقَلَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ، أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَرَّانَ إِلَى كَنْعَانَ بعث برداً إِلَى عَيْصُو أَخِيهِ إِلَى أَرْضِ سَاعِيرَ، فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ عَيْصُو هُوَ ذَا يَتَلَقَّاكَ وَمَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ، فَذُعِرَ يَعْقُوبُ وَحَزِنَ جِدًّا وَصَلَّى وَدَعَا وَقَدَّمَ هَدَايًا لِأَخِيهِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْمَلِكَ الَّذِي لَقِيَهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَدَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَى مَوْضِعِ عِرْقِ النَّسَا، فَخُدِّرَتْ تِلْكَ الْعَصَبَةُ وَجَفَّتْ فَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَا يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعُرُوقَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ صَارَ تَحْرِيمُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبَبًا لِحُصُولِهِ الْحُرْمَةَ.

أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحَرِّمُهُ عَلَيْهِ أَلَا