للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَرْدَفَهُ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَسَدٍ، وَمِنْ رُوحٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجَسَدِ أَنْ يَكُونَ/ آلَةً لِلرُّوحِ فِي اكْتِسَابِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ لِلرُّوحِ فَلَا جَرَمَ كَانَ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْجَسَدِ أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِأَعْمَالٍ تُعِينُ الرُّوحَ عَلَى اكْتِسَابِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْبَاقِيَةِ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْجَسَدُ آتِيًا بِأَعْمَالٍ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْمَعْبُودِ وَخِدْمَتِهِ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ هِيَ الْعِبَادَةُ، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى الْعِبَادَاتِ، وَهَذِهِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَإِذَا وَاظَبَ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُدَّةً فَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَنْوَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْإِتْيَانِ بهذه العبادات وَالطَّاعَاتِ بَلْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعَانَتُهُ وَعِصْمَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الدَّرَجَةُ الْوُسْطَى فِي الْكَمَالَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثُمَّ إِذَا تَجَاوَزَ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ لَاحَ لَهُ أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَأَنْوَارُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّجَلِّي لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَفِيهِ لِطَائِفُ: - اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمَنْهَجَ الْحَقَّ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَفِي الْأَعْمَالِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، أَمَّا فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَوَغَّلَ فِي التَّنْزِيهِ وَقَعَ فِي التَّعْطِيلِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ، وَمَنْ تَوَغَّلَ فِي الْإِثْبَاتِ وَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ وَإِثْبَاتِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْمَكَانِ، فَهُمَا طَرَفَانِ مُعْوَجَّانِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْإِقْرَارُ الْخَالِي عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ قَالَ فِعْلُ الْعَبْدِ كُلُّهُ مِنْهُ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقَدَرِ، وَمَنْ قَالَ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْجَبْرِ وَهُمَا طَرَفَانِ مُعْوَجَّانِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِلْعَبْدِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَأَمَّا فِي الْأَعْمَالِ فَنَقُولُ: مَنْ بَالَغَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَقَعَ فِي الْفُجُورِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي تَرْكِهَا وَقَعَ فِي الْجُمُودِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ الْعِفَّةُ، وَأَيْضًا مَنْ بَالَغَ فِي الْأَعْمَالِ الْغَضَبِيَّةِ وَقَعَ فِي التَّهَوُّرِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي تَرْكِهَا وَقَعَ فِي الْجُبْنِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ.

اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَصَفَهُ بِصِفَتَيْنِ أُولَاهُمَا إِيجَابِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى سَلْبِيَّةٌ أَمَّا الْإِيجَابِيَّةُ فَكَوْنُ ذَلِكَ الصِّرَاطِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَمَّا السَّلْبِيَّةُ فَهِيَ أَنْ تَكُونَ بِخِلَافِ صِرَاطِ الَّذِينَ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ الْعَمَلِيَّةُ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ حَتَّى اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِخِلَافِ صِرَاطِ الَّذِينَ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ النَّظَرِيَّةُ حَتَّى ضَلُّوا عَنِ الْعَقَائِدِ الْحَقِّيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ.

اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرِيدَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقَامَاتِ/ الْهِدَايَةِ وَالْمُكَاشَفَةِ إِلَّا إِذَا اقْتَدَى بِشَيْخٍ يَهْدِيهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَيُجَنِّبُهُ عَنْ مَوَاقِعِ الْأَغَالِيطِ وَالْأَضَالِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّقْصَ غَالِبٌ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَعُقُولَهُمْ غَيْرُ وَافِيَةٍ بِإِدْرَاكِ الْحَقِّ وَتَمْيِيزِ الصَّوَابِ عَنِ الْغَلَطِ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَامِلٍ يَقْتَدِي بِهِ النَّاقِصُ حَتَّى يَتَقَوَّى عَقْلُ ذَلِكَ النَّاقِصِ بِنُورِ عَقْلِ ذَلِكَ الْكَامِلِ، فَحِينَئِذٍ يَصِلُ إِلَى مَدَارِجِ السَّعَادَاتِ وَمَعَارِجِ الْكَمَالَاتِ.

وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَافِيَةٌ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْرِيرِ مُشَرِّعٍ آخَرَ مِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ: