للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِفَضَائِلِ الْكَعْبَةِ، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فِي أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ، وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا بَطَلَ قَوْلُ الْيَهُودِ: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَشْرَفُ مِنَ الْكَعْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ المراد من بِبَكَّةَ هُوَ مَكَّةُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَكَّةُ وَمَكَّةُ/ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْبَاءَ وَالْمِيمَ حَرْفَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ فَيُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فَيُقَالُ: هَذِهِ ضَرْبَةُ لَازِمٍ، وَضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَيُقَالُ: هَذَا دَائِمٌ وَدَائِبٌ، وَيُقَالُ: رَاتِبٌ وَرَاتِمٌ، وَيُقَالُ: سَمَدَ رَأْسَهَ، وَسَبَدَهُ، وَفِي اشْتِقَاقِ بَكَّةَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْبَكِّ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْبَعْضِ بَعْضًا، يُقَالُ: بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إِذَا دَفَعَهُ وَزَحَمَهُ، وَتَبَاكَّ الْقَوْمُ إِذَا ازْدَحَمُوا فَلِهَذَا

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سُمِّيَتْ مَكَّةُ بَكَّةَ لِأَنَّهُمْ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا أَيْ يَزْدَحِمُونَ فِي الطَّوَافِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ

قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ يُصَلِّي فَمَرَّتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَهَبْتُ أَدْفَعُهَا فَقَالَ: دَعْهَا فَإِنَّهَا سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهُ يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، تَمُرُّ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَالرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تُصَلِّي لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ لَا يُرِيدُهَا جَبَّارٌ بِسُوءٍ إِلَّا انْدَقَّتْ عُنُقُهُ قَالَ قُطْرُبٌ:

تَقُولُ الْعَرَبُ بَكَكْتُ عُنُقَهُ أَبُكُّهُ بَكًّا إِذَا وَضَعْتَ مِنْهُ وَرَدَدْتَ نَخْوَتَهُ.

وَأَمَّا مَكَّةُ فَفِي اشْتِقَاقِهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنْ أَنَّهَا تَمُكُّ الذُّنُوبَ أَيْ تُزِيلُهَا كُلَّهَا، مِنْ قَوْلِكَ: امْتَكَّ الْفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ، إِذَا امْتَصَّ مَا فِيهِ الثَّانِي: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِلَابِهَا النَّاسَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ امْتَكَّ الْفَصِيلُ، إِذَا اسْتَقْصَى مَا فِي الضَّرْعِ، وَيُقَالُ تَمَكَّكْتُ الْعَظْمَ، إِذَا اسْتَقْصَيْتَ مَا فِيهِ الثَّالِثُ: سُمِّيَتْ مَكَّةَ، لِقِلَّةِ مَائِهَا، كَأَنَّ أَرْضَهَا امْتَكَّتْ مَاءَهَا الرَّابِعُ: قِيلَ: إِنَّ مَكَّةَ وَسَطَ الْأَرْضِ، وَالْعُيُونُ وَالْمِيَاهُ تَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ مَكَّةَ، فَالْأَرْضُ كُلُّهَا تَمُكُّ مِنْ مَاءِ مَكَّةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَبَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَكَّةَ اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ خَاصَّةً، وَأَمَّا مَكَّةُ، فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ الْبَلَدِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اشْتِقَاقَ بَكَّةَ مِنَ الِازْدِحَامِ وَالْمُدَافَعَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الطَّوَافِ، لَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَكَّةُ اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ وَالْمَطَافِ. وَبَكَّةُ اسْمُ الْبَلَدِ، والدليل عليه أن قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ حَاصِلٌ فِي بَكَّةَ وَمَظْرُوفٌ فِي بَكَّةَ فَلَوْ كَانَ بَكَّةُ اسْمًا لِلْبَيْتِ لَبَطَلَ كَوْنُ بَكَّةَ ظَرْفًا لِلْبَيْتِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا بَكَّةَ اسْمًا لِلْبَلَدِ، اسْتَقَامَ هَذَا الْكَلَامُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَكَّةَ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : مَكَّةُ وَبَكَّةُ وَأُمُّ رَحِمٍ وَكُوَيْسَاءُ وَالْبَشَاشَةُ وَالْحَاطِمَةُ تَحْطِمُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا، وَأُمُّ الْقُرَى قَالَ تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام: ٩٢] وَسُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهَا أَصْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ وَمِنْهَا دُحِيَتِ الْأَرْضُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُزَارُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي الْأَرْضِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْكَعْبَةِ أَسْمَاءٌ أَحَدُهَا: الْكَعْبَةُ قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَةِ: ٩٧] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِشْرَافِ وَالِارْتِفَاعِ، وَسُمِّيَ الْكَعْبُ كَعْبًا لِإِشْرَافِهِ وَارْتِفَاعِهِ عَلَى الرُّسْغِ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً، لارتفاع ثديها، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْبَيْتُ أَشْرَفَ بُيُوتِ/ الْأَرْضِ وَأَقْدَمَهَا زَمَانًا، وَأَكْثَرَهَا فَضِيلَةً سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ وَثَانِيهَا: الْبَيْتُ الْعَتِيقُ: قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ