للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ رَئِيسًا فِي بَلَدٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ صَاحِبَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَقُولُ: إِنَّكَ إِذَا أَنْصَفْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَانِ صَارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَلَمْ يَقُلْ (جَاءَتْهُمْ) لِجَوَازِ حَذْفِ عَلَامَةٍ مِنَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فِعْلُ الْمُؤَنَّثِ مُتَقَدِّمًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَعْنِي الَّذِينَ تَفَرَّقُوا لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ تَفَرُّقِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ زَجْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ التَّفَرُّقِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْيَهُودَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَنَهَاهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَعْضِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْبَعْضِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَصْبِ يَوْمَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَالْأُخْرَى أَنَّ مِنْ حُكْمِ هَذَا الْيَوْمِ أَنْ تَبْيَضَّ فِيهِ وُجُوهٌ وَتَسْوَدَّ وُجُوهٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ (اذْكُرْ) .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَهَا نَظَائِرُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: ٦٠] وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يُونُسَ: ٢٦] وَمِنْهَا قَوْلُهُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: ٣٨- ٤١] وَمِنْهَا قَوْلُهُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢- ٢٥] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٤] وَمِنْهَا قَوْلُهُ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَنِ: ٤١] .

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي هَذَا الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ وَالْقَتَرَةِ وَالنَّضْرَةِ لِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيَاضَ مَجَازٌ عَنِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالسَّوَادَ عَنِ الْغَمِّ، وَهَذَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النَّحْلِ: ٥٨] وَيُقَالُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ بَيْضَاءُ، أَيْ جَلِيَّةٌ سَارَّةٌ، وَلَمَّا سَلَّمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِبَعْضِهِمْ فِي الشَّيْبِ.

يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي ... عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُونِ

فَلَعَمْرِي لَأُخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ... عَنْ عِيَانِي وَعَنْ عِيَانِ الْعُيُونِ

بِسَوَادٍ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي ... وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ الْمَلْعُونِ

وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ نَالَ بُغْيَتَهُ وَفَازَ بِمَطْلُوبِهِ: ابْيَضَّ وَجْهُهُ وَمَعْنَاهُ الِاسْتِبْشَارُ وَالتَّهَلُّلُ وَعِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِالسُّرُورِ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّضَ وَجْهَكَ، وَيُقَالُ لِمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ مَكْرُوهٌ: ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاغْبَرَّ لَوْنُهُ وَتَبَدَّلَتْ صُورَتُهُ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَرِدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ ابيض وجهه