للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْمُؤْمِنُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ؟.

وَالْجَوَابُ: بَلْ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمُرَادُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَرَهْطُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّجَاشِيُّ وَرَهْطُهُ مِنَ النَّصَارَى.

السُّؤَالُ الثَّانِي: الْوَصْفُ إِنَّمَا يُذْكَرُ لِلْمُبَالَغَةِ فَأَيُّ مُبَالَغَةٍ تَحْصُلُ فِي وَصْفِ الْكَافِرِ بِأَنَّهُ فَاسِقٌ.

وَالْجَوَابُ: الْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقًا فِي دِينِهِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا عِنْدَ الطَّوَائِفِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقْبَلُونَهُ لِكُفْرِهِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَقْبَلُونَهُ لِكَوْنِهِ فَاسِقًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَالَّذِينَ مَا آمَنُوا فَهُمْ فَاسِقُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمُ الْبَتَّةَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّصَلُّبِ فِي إِيمَانِهِمْ/ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَقْوَالِ الْكُفَّارِ وَأَفْعَالِهِمْ بِقَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ رَغَّبَهُمْ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْقَلِيلِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ صَارُوا مُنْهَزِمِينَ مَخْذُولِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الِالْتِفَاتُ إِلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٠] فَهَذَا وَجْهُ النَّظْمِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً

فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ضَرَرٌ وَإِنَّمَا مُنْتَهَى أَمْرِهِمْ أَنْ يُؤْذُوكُمْ بِاللِّسَانِ، إِمَّا بِالطَّعْنِ في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وإنما بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِمْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] والْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] واللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَةِ: ٧٣] وَإِمَّا بِتَحْرِيفِ نُصُوصِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ فِي الْأَسْمَاعِ، وَإِمَّا بِتَخْوِيفِ الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ إِلَّا أَذىً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ كُلَّ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ يُوجِبُ وُقُوعَ الْغَمِّ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَمُّ ضَرَرٌ، فَالتَّقْدِيرُ لَا يَضُرُّوكُمْ إِلَّا الضَّرَرَ الَّذِي هُوَ الْأَذَى، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا ضَرَرًا يَسِيرًا، وَالْأَذَى وَقَعَ مَوْقِعَ الضَّرَرِ، وَالْأَذَى مَصْدَرُ أَذَيْتُ الشَّيْءَ أَذًى.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ وَهُوَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ لَصَارُوا مُنْهَزِمِينَ مَخْذُولِينَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ أَنَّهُمْ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ مُنْهَزِمِينَ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَلَا قُوَّةٌ أَلْبَتَّةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [الْحَشْرِ: ١٢] وَقَوْلُهُ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢] وَقَوْلُهُ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَرِ: ٤٤، ٤٥] وَكُلُّ ذَلِكَ وَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ غُيُوبٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ آمِنُونَ مِنْ ضَرَرِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ لَوْ قَاتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ لَانْهَزَمُوا، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُقَاتِلُوا إِلَّا انْهَزَمُوا، وَمَا أَقْدَمُوا على محاربة وطلب رئاسة إِلَّا خُذِلُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَبْ أَنَّ الْيَهُودَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ النَّصَارَى لَيْسُوا كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْآيَاتِ قُلْنَا: هذه