كَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَاةِ لَهُمْ فَالْآيَةُ فِيهُمْ الثَّانِي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ بدر عند تظاهر هم عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّالِثُ:
نَزَلَتْ فِي إِنْفَاقِ سَفَلَةِ الْيَهُودِ عَلَى أَحْبَارِهِمْ لِأَجْلِ التَّحْرِيفِ وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ مَا يُنْفِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
المسألة الرابعة: اختلفوا في (الضر) عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: الصِّرُّ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الصِّرَّ: هُوَ السَّمُومُ الْحَارَّةُ وَالنَّارُ الَّتِي تَغْلِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا وُصِفَتِ النار بأنهارٌّ
لِتَصْوِيتِهَا عِنْدَ الِالْتِهَابِ، وَمِنْهُ صَرِيرُ الْبَابِ، وَالصَّرْصَرُ مَشْهُورٌ، وَالصَّرَّةُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذَّارِيَاتِ: ٢٩] وَرَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي يها صِرٌّ
قَالَ فِيهَا نَارٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ حَاصِلٌ، لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ بَرْدًا مُهْلِكًا أَوْ حَرًّا مُحْرِقًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُبْطِلًا لِلْحَرْثِ وَالزَّرْعِ فَيَصِحُّ التَّشْبِيهُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّيحَ تُهْلِكُ الْحَرْثَ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يُهْلِكُ الْإِنْفَاقَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَوْلَا الْكُفْرُ/ لَكَانَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ مُوجِبًا لِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ إِلَّا بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَالْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا حَصَلَ الْكُفْرُ فَاتَ الْمَشْرُوطُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَزَالَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَدَلَائِلُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ثُمَّ قال تعالى: صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
وما الفائدة في قوله لَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
قلنا: في تفسير قوله لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ عَصَوُا اللَّهَ فَاسْتَحَقُّوا هَلَاكَ حَرْثِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ هِيَ أَنَّ الْغَرَضَ تَشْبِيهُ مَا يُنْفِقُونَ بِشَيْءٍ يَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَرْثُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا حَرْثُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ فَلَا يَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ صُورَةً فَلَا يَذْهَبُ مَعْنًى، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَزِيدُ فِي ثَوَابِهِ لِأَجْلِ وُصُولِ تِلْكَ الْأَحْزَانِ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
هُوَ أَنَّهُمْ زَرَعُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الزَّرْعِ أَوْ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَتَأَكَّدُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ، فَإِنْ مَنْ زَرَعَ لَا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا فِي وَقْتِهِ يَضِيعُ، ثُمَّ إِذَا أَصَابَتْهُ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَصِيرَ ضَائِعًا، فَكَذَا هَاهُنَا الْكُفَّارُ لَمَّا أَتَوْا بِالْإِنْفَاقِ لَا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا فِي وَقْتِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ شُؤْمُ كُفْرِهِمُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَصِيرَ ضَائِعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ظَلَمَهُمْ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ نَفَقَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ أَتَوْا بِهَا مَقْرُونَةً بِالْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ مِنْ كَوْنِهَا مَقْبُولَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَلَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَلَكِنَّ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ، وَلَكِنَّهُ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ عَلَى إِسْقَاطِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ.