سَافِلَهَا، فَإِذَا حَضَرَ هُوَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مُقَاتَلَةِ النَّاسِ مَعَ الْكُفَّارِ؟ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ حُضُورِهِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِرْسَالِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ؟.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَكَابِرَ الْكُفَّارِ كَانُوا مَشْهُورِينَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقَابِلُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ إِسْنَادُ قَتْلِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْمَلَائِكَةُ لَوْ قَاتَلُوا لَكَانُوا إِمَّا أَنْ يَصِيرُوا بِحَيْثُ يَرَاهُمُ النَّاسُ أَوْ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ فَإِنْ رَآهُمُ النَّاسُ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ رَأَوْهُمْ فِي صُورَةِ النَّاسِ أَوْ فِي غَيْرِ صُورَةِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صَارَ الْمُشَاهَدُ مِنْ عَسْكَرِ الرَّسُولِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، أَوْ أَكْثَرَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٤٤] وَإِنْ شَاهَدُوهُمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُوَرِ النَّاسِ لَزِمَ وُقُوعُ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ فَإِنَّ مَنْ شَاهَدَ الْجِنَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَشْتَدُّ فَزَعُهُ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ مَا رَأَوُا الْمَلَائِكَةَ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إِذَا حَارَبُوا وَحَزُّوا الرؤوس، وَمَزَّقُوا الْبُطُونَ وَأَسْقَطُوا الْكُفَّارَ عَنِ الْأَفْرَاسِ، فَحِينَئِذٍ النَّاسُ كَانُوا يُشَاهِدُونَ حُصُولَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا شَاهَدُوا أَحَدًا مِنَ الْفَاعِلِينَ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ الْجَاحِدُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عُرِفَ فَسَادُ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ نَزَلُوا، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً أَوْ لَطِيفَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمُ الْكُلُّ وَأَنْ تَكُونَ رُؤْيَتُهُمْ كَرُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا أَجْسَامًا لَطِيفَةً دَقِيقَةً مِثْلَ الْهَوَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ صَلَابَةٌ وَقُوَّةٌ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُمْ رَاكِبِينَ عَلَى الْخُيُولِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَرَوْنَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ إِنَّمَا تَلِيقُ بِمَنْ يُنْكِرُ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ، فَأَمَّا مَنْ يُقِرُّ بِهِمَا فَلَا يَلِيقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَمَا كَانَ يَلِيقُ بِأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ إِنْكَارُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِهَا وَوُرُودُهَا فِي الْأَخْبَارِ قَرِيبٌ مِنَ التَّوَاتُرِ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ قُرَيْشٌ مِنْ أُحُدٍ/ جَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ بِمَا ظَفِرُوا، وَيَقُولُونَ: لَمْ نَرَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ وَلَا الرِّجَالَ الْبِيضَ الَّذِينَ كُنَّا نَرَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَالشُّبْهَةُ الْمَذْكُورَةُ إِذَا قَابَلْنَاهَا بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى زَالَتْ وَطَاحَتْ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَاجَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْقِتَالِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
بَلْ بِتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّ النُّصْرَةَ لَهُمْ وَبِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْمَدَدِ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ الْجَيْشَ فِي الْقِتَالِ إِنْ وَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَقَعَ الْحَاجَةُ إِلَيْهِمْ فِي نَفْسِ الْقِتَالِ وَأَنْ يَكُونَ مُجَرَّدُ حُضُورِهِمْ كَافِيًا فِي تَقْوِيَةِ الْقَلْبِ، وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ مَعْنَى الْكِفَايَةِ هُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَالْقِيَامُ بِالْأَمْرِ، يُقَالُ كَفَاهُ أَمْرَ كَذَا إِذَا سَدَّ خَلَّتَهُ، وَمَعْنَى الْإِمْدَادِ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ قَالَ الْمُفَضَّلُ: مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالْإِعَانَةِ قِيلَ